في يوم من الأيام، أوحى الله تعالى إلى النبي إبراهيم: «يا إبراهيم، أرحل وفارق بيت أبوك وأهلك وأذهب إلىَ الأرض التي سأهديك إليها. وأنا أباركك وأجعل أمةً عظيمة تخرج من نسلك، وأُكرم أسمك وتكونَ منك بركة للعالمين. واُكرم من يُكرمك وأُهين من يهينك، وَبكَ تَتَبَارَكُ أمم الأرض أجمعين». فأطاع إبراهيم أمر رب العالمين. وأَخَذَ إبراهيم سَارَه زَوْجَتَهُ وَلُوطًا ابْنَ أَخِيهِ وَمعهم كُلَّ املاكهم والعبيد الذين امتلكوهم في حاران وَرحلوا إلى أَرْضِ الكَنْعَانَين. حينها كان النبي إبراهيم قد بلغ من العمر الخامسة والسبعين. وحين وصلوا أرض كنعان التي كانت تسكنها قبائل الكنعانيين، تنقل النبي إبراهيم حتى وصلوا عند شجرة ممرا المقدسة بجوار بلدة شكيم القريبة من جبل جرزيم (الموجودة الآن بالقرب من مدينة نابلس في فلسطين). وهناك أوحى الله تعالى للنبي إبراهيم: «يا إبراهيم، هذه الأرض وهبتها لذريتك». فَبَنَى النبي إبراهيم حيث تجلى له الله مكان عبادة يقدم فيه لله القرابين. ثم انْتَقَلَ مِنْ بلدة شكيم إِلَى الْجَبَلِ شَرْقِيَّ بلدة بَيْتِ إِيلٍ، حَيْثُ نَصَبَ خِيَامَهُ مَا بَيْنَ بَيْتِ إِيلٍ في الغرب وَقرية عَايَ في الشرق، وبنَى هُنَاكَ أيضًا مكان لعبادة الله ودعا بسم الله الحي القيوم. ثم تابع النبي إبراهيم ارْتِحَالَهُ للجنوب ناحية صحراء النقب (جنوب فلسطين). في ذلك الوقت حدثت مجاعة شديدة في أرض الكنعانيين، فواصل النبي إبراهيم ترحاله جنوباً ليقيم فترة في أرض المصريين. وقبل أن يصلوا مصر، قَالَ النبي إبراهيم لزَوْجَتِهِ سَارَه: «أسمعي، أعلم أنك امرأةٌ جميلة، وحين يَرَاكِ الْمِصْرِيُّينَ، ربما يقتلوني لأني زوجكِ ويُأخذوكِ. لذلك أفضل أن تقولي لهم أنك أختي، فبسببك يُحْسِنُوا إليَّ وتحيا نفسي بفضلك». وَحين دخل النبي إبراهيم إلى مصرَ لفت جَمَالُ سَارَه أنظار الناس. وحين رأها رجال قصر الفرعون، مدحوا في جمالِها للفرعون، فأمر الفرعون أن يأتوا بها إلى القصر لتكون ضمن الحريم. وبسببها أنعم فرعون على النبي إبراهيم بجزيل العطايا مِنَ الْعَبِيدِ والجواري والغنم والبقر والحميرِ والجمال. لكن الله تعالى اصابَ فرعَون وأهل بيته بِأمراض وبلايا عظيمةٍ، لأن الفرعون أخذ ساره زوجةِ النبي إبراهيم. فاستدعى فرعون النبي إبراهيم، وقالَ له: «ما الذي فعلت بي يا إبراهيم؟ لماذا لم تقول أن سارة زوجتك؟ ولماذا ادعيتَ أنها أختُكَ حتى أخذتها لتكُون عندي ضمن الحريم؟ والآن ها هي أمرأتُكَ، خذها وارحلا من هنا فوراً». وأمر الفرعون رجاله بأن يتأكدوا من رحيل النبي إبْرَاهيمَ من بلادهِم، فَرافق رجال الفرعون النبي إبراهيم وامرأته ومعهم كلَّ ما كانوا يملكوه حتى رحلوا عن أرضِهم.
13
عودة النبي إبراهيم من مصر
فخرج النبي إبراهيم من مصر ومعه زوجته وابن أخيه لوط وكل أملاكَهُم، ورحلوا ناحية صحراء النقب في جنوب فلسطين، وكان النبي إبراهيم يملك ثروةً عظيمةً من الذهب والفضة والأنعام. وتنقل النبي إبراهيم فِي صحراء النَّقَبِ، حتى وصل بلدة بَيْتِ إِيلَ. وأقام في نفس المكان الذي خيم فيه من قبل، حيث كان قد بنَى مكان لعباده الله وقَدَم القرابين. وَحين عاد إلى هناك، تعبد النبي إبراهيم ودَعَا بِسْمِ الله تعالى مرة أخرىَ.
افتراق إبراهيم ولوط
وأصبح لوط أبن أخو النبي إبراهيم هو الآخر صاحب مواشي وأغنام وخيام. في ذلك الوقت كان الفريزيين والكنعانيين أيضًا في نفس تلك الأراضي ساكنين. فضاقت الأرضُ من كثرة أملاك لوط والنبي إبراهيم، ولم يمكنهما أن يسكنا متجاورين. فبدأ التنازع على المراعي بين رعاة غنم لوطًا ورعاة غنم النبي إبراهيم. وحين علم النبي إبراهيم بالخلاف بين الرعاة، قال للوط: «يا أبن أخي، نحن أهل ولا يصح أن نتنازع فيما بيننا، ولا أن يتنازع رعاتنا. أليست هناك أراضي واسعة أمامك؟ فاختار منها ما شئت ودعنا نفترق أذن، إن أتجهتَ أنت شمالًا، أتجهُ أنا للجنوب، وإن أتجهتَ أنت جنوبًا، أتجهُ أنا للشمال».
لوط يختار سدوم
فرفع لوط عينه ونظر حوله، فرَأى أن وادي الأردن إلى مدينة صوغر مليء بالمياه يشبه الجنة كأرض مصر. حدث هذا قبل أن يدمر الله سَدوم وعمورة. فاختارَ لوط لنفسهِ واديَ الأردن كلَّهُ وارتحل شرقاً، ونصب خيامَه بالقرب من مدينة سدوم التي كان أهلهَا يفعلون الشر وفاسدين. أما النبي إبراهيم فبقيَّ في أرض الكنعانيين. وهكذا أفترق لوط عن النبي إبراهيم. وبعدما أفترق لوط عن النبي إبراهيم، أوحى الله تعالى للنبي إبراهيم وقال: « يا إبراهيم، دقق النظر في كل ما حَولَكَ. هذه الأرض التي تراها، أنا أعطيتها لك وترثها ذريتِكَ من بعدِك. واعطيك نسل اكثر من حبات الرمل على الارض، من كثرتهم يعجز الناس عن عدهِم. قُم يا إبراهيم وتجَول في الأرض التي وهبتها لك». فسجد النبي إبراهيم شكرًا لله. وبعدها رحل وأقام عند بلوطات ممرا بالقرب من مدينة حبرون الخليل. وبَنَى هناكَ مكان لعبادة الله وتقديم القرابين.
14
حرب الملوك
وفي ذلك الزمان، كان خمسةً من ملوك وادي الأردن، خاضعين لمدة اثنتي عشر سنة، لسلطة مَلك أرض عيلام في بلاد ما بين النهرين، وفي السنة الثلاثة عشر، تمرد عليه الملوك الخمسة. بعدها بسنة جمع ملك أرض عيلام قواته واستعان بثلاثة ملوك من حلفائه في بلاد ما بين النهرين، ومشى الملوك الأربعة بالجيوش لمحاربة الملوك الخمسة المتمردين. فحشد الملوك الخمسة قواتهَم في وادي البحر الميّت، للدفاع ضد الملوك الأربعة المهاجمين. فقامت الحرب وانتصر الملوك الأربعة المتحالفين، على الملوك الخمسة المتمردين، واخدوا كلّ الغنائم التي نهبوها، وأيضًا اخذوا لوط أبن أخو النبي إبراهيم، الذي كان يعيش في سدوم وكل أملاكه من ضمن المأسورين، ثم رحلوا على بلادهِم.
إنقاذ لوط من الأسر
وحين كان النبي إبراهيم يقيم في حبرون الخليل، عرف ما حدث في سدوم من أحد رجال لوط الناجيين. فلمّا علم النبي إبراهيم بأسر ابن أخيه، جمع الموالي المولودين في بيتِه، وعددهم ثلاث مئة وثمانيةَ عشر من الرجال الأشداء المُخلصين، بالإضافة إلى رجال حلفائه ممرا وأشكول وأخيه عانر، وتبِعوا الملوك الأربعة شمالاً حتى لحقوا بهم عند مدينة دان، بالقرب من مرتفعات الجولان. وفي تلك الليلة، قسّم النبي إبراهيم رجاله، وهجموا عليهم من كلّ اتجاه، فهزموهم وطاردوهم حتىَ شمال دمشق. ثم رجع النبي إبراهيم، ومعه لوط والغنائمِ والنساءَ وكل المأسورين.
الملك مَالْكِصَادِق يدعو بالبركة لإبراهيم
وعندما رجع النبي إبراهيم بعدما هزم ملك عيلام وحلفائه، خرج ليستقبله مَالْكِصَادِق ملك أورشليم القدس، الذي كان من أولياء الله الصالحين، فقدم مَالْكِصَادِق خبزًا وشرابًا للنبي إبراهيم. وباركه وقال: اللهم ربي العلي العظيم، يا خالق السموات والأرض بارك إبراهيم. وتبارك اللَّهَ العلي العظيم، الّذي جعل أَعداءك بين يديك خاضعين. فقدم النبي إبراهيم للملك مَالْكِصَادِقُ زكاة العُشر من كل الغنائم. ثم جاء ملكُ سدومَ وقال للنبي إبراهيم: «يا إبراهيم احتفظ بكل ما غنمت من ثروة لنفسك، وأترك لي أنا الأسرى المُحررين». فأجابهُ النبي إبراهيم: «لقد أقسَمتُ بربي العلي العظيم، خالق السَّماواتِ والأَرْضِ، ألاَ آخذَ شيئاً منكَ، حتى وإن كان رباط نعل زهيد، لئلا تقولَ أبدًا: أنا أغنيتَ إبراهيم. لن أقبل منك غير ما أكله رجالي. أما حلفائي عانر وأشكول وممرا ورجالهُم، فهم يحتفظون بنصيبَهُم». وبعدها رجع النبي إبراهيم ورجاله إلى حبرون الخليل.
15
عهد الله مع إبراهيم
بعدما رجع النبي إبراهيم ورجالَه من الحرب إلى مدينة حبرون الخليل، أوحى الله في الرؤيا إلى النبي إبراهيم: «لا تخاف يا إبراهيم. فأنا أحفظك واحميك وأجرَك عندي عظيم». فقال النبي إبراهيم: «ربي العظيم، أي خير تنزله إليَّ، وعبدي أليعازر الدمشقي، هو مَن سيرثني؟ يا رب إنك لم تهبني ذرية، وَهَا هُوَ وريثي عبدٌ مولودٌ في بيتي» فأوحى الله إلى النبي إبراهيم: «يا إبراهيم، لن يرثَك إليعازر عبدك، بل يرثُك أبنك الَذي سيخرج من صلبِكَ ». بعدها أخرج الله تعالى النبي إبراهيم وقال له: «انظر إلى السماء يا إبراهيم، وعد النجومَ إن كنتَ من القادرين. هكذا سيكون نسلكَ يا إبراهيم». فآمن بالله وصَدَّقَ إبراهيم، فرضي الله عنه وتقبله من الأبرار الصالحين. بعدها قال الله تعالى للنبي إبراهيم: «أنا هو الله الذي جاء بك من بلاد ما بين النهرين، لأهبُ لك هذه الأرض». فتسأئل النبي إبراهيم: «ربي كيف أعلمُ أن هذه الأرض ملكً لي؟» فأوحى له الله: «خذ عِجْلَةً وعَنزةً وكبشاً عمر كل منها ثلاثُ سنواتٍ، وخذ يمامةً وحمامةً وافعل كما أقول لك». ففعل النبي إبراهيم كما أمره الله، فذبح البهائم وشقها نصفين (علامة على العهد بين المتعاهدين.) ووضع شطري البهائم متقابلين، والطيور ذبحها لكن لم يشطرها نصفين. وحين نزلت الطيور الجارحة لتنقض على الأضاحي، طردها النبي إبراهيم. وحين مالت الشمس إلى الغروب راح النبي إبراهيم في نوم عميق، فأطبق عليه ظلامٌ رهيبٌ ثقيل. وقال الله تعالى للنبي إبراهيم: «أعلم باليقين يا إبراهيم أن نسلك سيكونون غرباء يعيشون في أرض ليست لهم، فيستعبدهم أهلُها أربع مئة سنة. ولكنني سأعاقب تلك الأُمة التي استعبدتهم، وبعدها يخرج نسلك بثروةٍ في حوزتهِم. وسيعودون في الجيل الرابع من نسلك إلى هذه الأرض. حينها يكون قد زاد وامتد شر أهل البلاد وحق عليهم العقاب، أما أنت فتُوَفّي أجلك بسلام وتدفَن بشيبة الصالحين.» وبعد الغروب حين خيم الظلام، ظهر موقد يخرج منه دُخانٍ وشعلة من لهب تعبُر بين أَنصاف الحيوانات المقطوعين.
الوعد بالأرض
في ذلك اليوم قطع الله عهداً لنبيهِ إبراهيم وقال: «ٍسأعطي نسلك هذه الأرض التي من نهر مصر إلى نهر الفرات العظيم».
16
قصة هاجر وإسماعيل
أما سارة زوجة النبي إبراهيم فكانت عقيم، وكانت لها جاريةٌ مصريةٌ تُدعَى هاجر. وبعدما مرت على إقامة النبي إبراهيم في أرض كنعان عشر سنين، قالت سارة للنبي إبراهيم: «مشيئة الله لي كانت أن أكون عقيم، فأدخل على هاجر، ولو انجبت ولد أخذه أنا لنفسي». فكما قالت سارة فعل النبي إبراهيم.
هاجر تهرب من سارة
وحدث أن إجتمع النبي إبراهيم بزوجتهِ هاجر فحملت، وحين عرفت أنها حامل بدأت تتكبر على سارة وتحتقرها. فقالت سارة للنبي إبراهيم: أنا مظلومة بسببك، فأنا التي جعلتك تتزوجها. ولما عرفت أنها حامل هُنت أنا في عينهِا، والله يحكم بيني وبينك. فأجابها النبي إبراهيم: جاريتِك في يدك، وكما تريدين أفعلي بها. فأساءت سارة معاملتها وأذلتها، فهربت هاجر من قسوة سارة عليها.
هاجر تسمي الله بسم أنت إلهي الذي يراني
فظهر لهاجر ملاك الله بالقرب من عين ماء، على الطريق في صحراء سيناء. فدنىَ منها وسألها: «يا هاجر، من أين أتيتي وإلى أين أنتِ ذاهبة؟» فأجابته هاجر: أنا من وجهِ سارة هاربة. فقال لها ملاك الله: «عودي يا هاجر واطيعي أمرها، وأنا سأُكثر نسلك فلا يحصاه البصر، هوذا أنتِ حاملٌ، وَستلدينَ ابناً وتسميه إسماعيل (ومعناهُ: الله هو السميع) لأن الله سمع صرخة شقائك. وَسيكونُ رجل كوحوش البرية، يده مرفوعة على الجميع ، الكل يعاديه وهو يتحدى الجميع». ولأن وحي الله ظهر لهاجر وكلمها ولم تمت، دعته بأسم أنت إلهي الذي يراني، وقالت: «بالحق رأيت الذي يراني!». لذلك سُميت تلك البئر التي في سيناء «بئر الحي البصير».
مولد إسماعيل
وبعدها ولدت هاجر للنبي إبراهيم ولداً، فسماه إسماعيل. وكان النبي إبراهيم قد بلغ من العمر السادسة والثمانين حين رزقه الله بأبنه إسماعيل.
17
العهد والختان
وحين كان النبي إبراهيم قد بلغ من العمر التَّاسِعَةِ وَالتِّسْعِينَ، ظهر له وحي رب العالمين وقال: «يا إبراهيم، أنا هو الله القدير، إن اطعتني وسرت على صراطي المستقيم، فإني أحفظ عهدي معك، ومثل عدد نجوم السماء أكثّرُ نسلك». فسجد لله النبي إبراهيم. فقال له رب العالمين: «عهدي لك يا إبراهيم أن تكون أبًا لأممٍ كثيرةٍ. الآن أغيّر أسمك، وبدلآ من أَبْرَامَ سيكون أسمك إبراهيم، لأنك ستكون أباً لأممٍ كثيرة؛ ساعطيكَ نسلاً كثيراً، ويكون من نسلك أممًا عظيمة، ويخرج أيضًا من نسلِكَ ملوكاً. وأنا أحفظ عهدي معك ومع نسلِك، وأكون إلهك وإله نسلَك. وكل أرض كنعان التي أنت فيها مُغترباً الآن، للأبد أهبها لك ولنسلك، وأكون إلهًا لنسلك من بعدك. أما أنت يا إبراهيم وكل ذريتك، فعليكم الطاعة وأن تسيروا على صراطي المستقيم. والعلامة على طاعتكم لعهدي معكم هي ختان ذكوركم، فيجب أن يكون كل ذكوركم مختونين. من الآن، كل ذكر مولود من نسلِك، وكل ذكر مولود في بيتِك، من العبيدِ أو الغرباءِ المملوكين، بعد ثمانية أيامٍ من ولادتهم ،يجب أن يكونوا مختونين. فيكون الختان علامة العهد في أجسامِكُم، إلى أبد الأبدين. أما الذكور الغير مختونين، فيُطرَدوا من قومِهِم لأنهم لعهدي مخالفين.
أما ٱمرأتُك يا إبراهيم، فلن يكون اسمها بعد الآن ساراي (معناه: الصغيرة)، بل سيكون اسمها سارة (معناه: الأميرة). وأبارك فيها وأعطيك أبنًا منها، وتكون أُمًّا لأممٍ كثيرة، ويخرج ملوكًا من ذريتها». فَسجد إبراهيم لله، وضحك وقال في نفسِه: «هل يمكن أن أنجب ولدًا وقد قارب عمري على مئة سنة، أو تلد سارة وقد بلغت التسعين؟»
ثم قال النبي إبراهيم: «إلهي، يكفيني أنك جعلت إسماعيل يرث ما وعدتني» فقال الله لإبراهيم: «زوجتُكَ سارة ستلد لك أبناً وتسميه إِسْحاقَ. وسأحفظ على الدوام عهدي معه ومع ذريتِهِ من بعدِه. وأما إسماعيل فأنا سمعت دعوتك، وسأباركه بنسل كثير. سيكون أبًا لأثني عشر زعيم قبيلة، وسأجعل من نسلِه أمةً عظيمة. إلا أن عهدي أقيمه مع إسحاق، الذي ستلده لك سارة في مثل هذا الوقت من السنة القادمة». وَلما أنتهى كلام وحي الله مع النبي إبرهيم، تركه ملاك الله وصعد إلى السماء.
تنفيذ عهد الختان
وفي نفس اليوم أطاع النبي إبراهيم ما أمره رب العالمين، وختن نفسَه وختن ولده إسماعيل. وأيضًا ختن كل الذَكَور المولودين في بيته، من العبيد أو الغرباء المملوكين. وفي هذا اليوم كان نبي الله إبراهيم قد بلغ من العمر تسعة وتسعين سنةً، وإسماعيل ثلاثَ عشرةَ سنةً.
18
ملائكة السماء في ضيافة النبي إبراهيم
وبعد فترة من الختان والوعد بولادة إسحاق، أوحي الله للنبي إبراهيم عند أشجار بلوط ممرا، حين كان جالساً عند مدخل خيمته وقت اشتداد الحر. فَرَأىَ النبي إبراهيم ثَلاَثَةَ ملائكة في هيئة رجال بالقرب منه واقفين. فنهض وأسرع النبي إبراهيم لإستقبالهم وأنحنى لهم، وقال: «يا سادة، إن كنت أنال رضاكم، فتفضلوا عندي ضيوفاً مُكَرَمين. واسمحوا لي بأن أحضر بعض الماءِ، فتغسلوا أقدامَكُم، ثم تستريحون في ظل هذه الشجرة. واسمحوا لي بأن أقدم لكم بعض الخبز تتقوتون به قبل أن تكملوا طريقِكُم». فوافقوا وقبلوا ضيافة النبي إبراهيم. فأسرع النبي إبراهيم إلى خيمتِهِ وقال لسارة زوجته: «أسرعي واعجني كيسًا كبيرًا من أفضل الدقيق الذي لدينا». ثمّ أسرع النبي إبراهيم إلى قطيع المواشي، واختار واحدًا من أفضل العجول لديه، وأمر خدمه بأن يُسرعوا في تحضيره. وحين جَهَز الطعام، قَدَم النبي إبراهيم لهم حليبًا وزُبدًا مع العجل الحنيذ. ثم وقف يخدمهم وهم جالسون تحت الشجرٍة. فَقالوا له: «أين زوجتك سارة يا إبراهيم؟» فقال النبي إبراهيم: «هي هناك في الخيمة.» فقال له أحدهم: «حين أعود إليك في مثل هذا الوقت من السنة القادمة، ستكون زوجتك سارة قد انجبت لك ولد». وكانت سارة تتصنت علىَ حديثهم من وراء حجاب مدخل خيمتها. وكانَ النبي إبراهيم وسارة قد شاخا وتقدما في العمر، ومنذ سنواتٍ طوال كانت قد أنقطعت عن سارة عادة النساء. فضحكت سارة وقالت في نفسِها: «وهل أنال تلك الفرحة وَأَنَا عَجُوزٌ عقيم، وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا ۖ من المسنين؟» فقال الله للنبي إبراهيم: «هل تضحك سارة ولا تصدق، وتقول كيف يكون لي ولد وأنا عجوز عقيم؟ وهل هناك على الله القدير مستحيل؟ سأُعود إليك في هذا الوقت من السنة القادمة كما وعدتك، وستكون سارة قد ولدت لك غلامٌ حليم.» فخافت سارة وأنكرت وقالت: «لم أضحك» فقال لها المَلَك: «لا، بل ضحكتِ.»
وحين قام الرجال ومشوا تجاه مدينة سدوم، مشَى النبي إبراهيم معهم لوداعهِم. وفي الطريقِ قال وحي الله: «أفضل أن يعرفَ إبراهيم ما سأفعله بسدوم وعمورة قوم لوط. لأن نسل إبراهيم سيكون أممًا عظيمةً وبه سأبارك أمم الأرض أجمعين. وأنا أصطفيتُهُ ليوصي أهل بيتهِ، وكل نسلهِ من بعدهِ، بأن يطيعوني ويتمسكوا بالحق والعدل على الدوام. فإن أطاعوني وحفظوا عهدي، اُكثر نسله وأتمم له وعدي»
ثمّ قال وحي الله للنبي إبراهيم: «يا إبراهيم، قد علمت أن أهل سَدوم وعَمورة فسدوا وقد عَظُمَت فيهم معاصي الظالمين. وسننزل إليهم لكي نتحقق إن كان حق عليهم الهلاك.» ثم رحل الرجال وتوجهوا إلى سدوم، لكن النبي إبراهيم ظل قائمًا في حضرة وحي رب العالمين. فدنا النبي إبراهيم وقال: «ربي أنت العدل، فهل تُهلك الأبرياء مع المذنبين؟ إن كان في المدينة خمسين صالحين، فهل تهلكها ولا تعفو عنها رحمة بالصالحين؟ حَاشَا لك يا رب أن تهلك الأبرياء مع المذنبين، فأنت ربي الحكم العدل. وهل لا تحكم بالعدل وأنت خير الحاكمين؟ فقال الله: «إن كان في سدوم خمسين صالحاً عفوت عنها إكراماً للصالحين.» فقال النبي إبراهيم: «عبدك رجل بسيط ولست إلا تراب وطين، فعفوك ربي إن كنت من المجادلين. فإن كان في المدينة فقط خمسة وأربعين صالحين، فهل تُهلك المدينة كلها بسبب الخمسة الناقصين؟» فقال الله: «لا أُهلكها إن كان فيها خمسة وأربعين من الصالحين» فقال النبي إبراهيم: «ربي، وإن كان في المدينة أربعين فقط من الصالحين؟» فقال الله: «لا أُهلكها إكرامًا للأربعين.» فقال النبي إبراهيم: «ربي لا تغضب عليَّ ولا تؤاخذني، وإن كان في المدينة فقط ثلاثين من الصالحين؟» فقال الله: «لا أُهلكها إكرامًا للثلاثين.» فقال النبي إبراهيم: «ربي أغفر لي إن تجرأت وتكلمت! فإن كان في المدينة فقط عشرين من الصالحين؟» فقال االله: «لا أُهلكها إكرامًا للعشرين.» فقال النبي إبراهيم: «ربي لا تغضب علَى عبدك إن زدت مرة أخرى، فإن كان في المدينة فقط عشرة صالحين؟» فقال الله: «لا أُهلكها إكرامًا للعَشْرَةِ الصّالِحِينَ.» وحين أتم الله كلامه، رجع إلى خيمته النبي إبراهيم.
19
هلاك سدوم وعمورة
وبينما كان النبي إبراهيم يُكلمَ وحي الله، وصل الملاكان إلى سدومٍ عند المساء. وكان النبي لوط أبن أخو النبي إبراهيم جالساً عند باب المدينة. فلما رأهما أقبل عليهما وأنحنى للأرض أمامهما، وقال: «يا سادة، لو تتكرما تفضلا في بيتي، فتغسلا أرجلكما وتقضيا الليلة، وفي الصباح تذهبان في سبيلكما». لكنهما قالا: «لا، بل سنقضي الليلة في ساحةِ المدينة» لكن النبي لوط أصر، وألح عليهما حتى قبلا ضيافتَهُ، وذهبا معه إلى بيتِهِ. فأسرع النبي لوط وأعد لهما طعامًا وقدمه إليهما.
ولكن قبل أن يناموا، جاء كل رجال سدوم شباباً وشيوخًا، وتجمعوا حول دار النبي لوط من كل ناحية، وصرخوا وقالوا: «يا لوط، أين الرجلان اللذان دخلا بيتك الليلة، أخرجهما إلينا لنفسقَ بهما». فَخَرج إليهم النبي لوط وأغلق بَاب البيت، وقال: «يا أخواني أتوسل إليكم ألا تفعلوا هذا الشر العظيم. هَؤُلَاءِ بَنَاتِي الأثنتان عذارَى إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ، وإِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِي وهما الآن محتميان في بيتي ». فقالوا: «أبعد عن طريقنَا. أنت غريباً عنا، بأي حق تأمرنا وتحكم علينا؟ فسنفعل بك شرًا أكثر مما كنا سنفعل بضيوفك الأثنين». فدفعوا النبي لوط بقوةٍ واندفعوا ليكسروا باب بيت النبي لوط. إلا أن المَلَكَّان فتحا الباب ومدا أيديهما وسحبا النبي لوط إلى الداخل وأغلقا الباب في وجهِ المتدافعين. ثم ضرب الملكان كل الرجال المتدافعين نحو الباب بالعمَى فلم يروا باب البيت.
إنقاذ النبي لوط وعائلته
وقال الملكان للنبي لوط: «يا لوط، قد علمَ الله أن أهل سَدوم وعَمورة فسدوا وعَظُمَت فيهم معاصي الظالمين. وقد أرسلنا لنهلك المدينة. فأخرج بأهل بيتك من المدينة، واخرِّج معك أيضًا خُطاب بناتك، وكل أهلكَ الأقربين.» فخرج النبي لوط، وذهب إلى خُطاب بناتهِ وقال لهم: «هيا، قوموا واخرجوا من هنا، فإن الله سيدمر المدينة». لكنهم ضحكوا ولم يسمعوا له، لأنهم ظنوا أنه يمزح معهم. وحين أشرق الصبح قال الملكان للنبي لوط: «يا لوط، هيا اسرع لأن الله سيدمر المدينة، فاُخرج بزوجتِكَ وبناتِكَ، فلا تَهلكوا مع الهالكين.» لكن النبي لوط تردد. فأخذ الملكان النبي لوط من يدهِ، وأخرجاه من المدينة ومعه بناتهِ وزوجتهِ. وهكذا، رحم الله النبي لوط فأخرجه من سدوم إكرامًا لشفاعة النبي إبراهيم.
لجوء لوط وعائلته إلى صوغر
وبعدما أخرّجوهم من المدينة قال لهم الملكان: «أهربوا ونجوا أنفسكم، ولا يلتفت خلفَه أحدٌ منكم، ولا تتوقفوا في السهل، بل أهربوا إلى التلال فتكونوا أمنين». فقال النبي لوط: «يا سيدي، لك الشكر بعد ما لطفت بحالي وخلصت حياتي، لكن تلك التلال بعيدةً جدًا، وربما هلكنا في الطريق قبل أن نصل إليها. أنظر فهناك قريةً صغيرةً قريبة، لو سمحت لنا بأن نذهب إليها سنكون فيها آمنين.» فَقَالَ لَهُ الْمَلاَكُ: «حسنًا، أفعل كما قلت أذن، فاسرع واذهب لتلك القرية، لأننا لن ندمر سدوم وعمورة إلا بعد أن تبتعدَ أنت.» ولأن النبي لوط قال عليها قريةً صغيرة، سُميت تلك القرية بأسم صوغر.
وحين وصل النبي لوط إلى صوغر، كانت الشمس قد بدأت تشرق على الأرض. وأمطر الله علَى سدوم وعمورة حجارةً ملتهبةً من سجيلٍ. فأهلك الله تلك المدن وكلَّ سكانها، وهلكت معهما كل نباتات الوادي وأشجارهِا. أما امرأة النبي لوط فكانت تتبعه، لكنها نظرت ورائها فَتَحَوَّلَتْ إِلَى عَمُودِ مِلْحٍ وهلكت مع الهالكين.
وفي صباح نفس اليوم، رجع النبي إبراهيم إلى المكان الذي كان قد تكلم فيه مع وحي الله . ونظر لأسفل نحو سدوم وعمورة وكل الوادي من حولِهما، فرأى الدخان على كل الأرض وكأنه متصاعد من فرنٍ مُلتهب. واستجاب الله لدعوة النبي إبراهيم، فنجَى الله النبي لوط وأهل بيته قبل أن يهلك مُدن الوادي.
ولما وصل النبي لوط وابنتاه قرية صُوغَرَ، خاف أن يقيم فيها. فرحل مع البنتين إلى التلال التي كان قال له الملاك أن يذهب إليها، وعاشوا في كهف مُنعزلين. وبعد فترة حملت البنتان وأنجبتا ولدان. الكبيرة سمت أبنها موآب وهو أبو الموآبيين، وأرضهم شرق بحر الميّت. والبنت الصغيرة سمّت أبنها عمّون وهو أبو بني عمّون وأرضهم شمال أرض الموآبيين.
20
أبيمالك والنبي إبراهيم
(وبعد فترة من هلاك سدوم وعمورة،) رحل النبي إبراهيم من أرض ممرا الأموري، إلى منطقة النقب ناحية الجنوب، بين قادش وبرية شور شمال صحراء سيناء. وبعدها رحل إلى مدينة جَرَار القريبة من الساحل جنوب فلسطين. وحين أقام النبي إبراهيم في مدينة جرار، ادّعى أن سارة أختهَ وليست زوجته، (لأنه خاف أن يقتلوه ليأخذوها.) فَأَرْسَلَ أَبِيمَالِكُ ملك جَرَار بعض جنوده فأخذوا سارة. ولكنّ الله ظهر لأبيمالك في الحلم ليلاً وقال له: «يا أَبيمَالِكُ، أخذت امرأة متزوجة في بيتك، ومن أجل هذا ستموت». فقال أَبيمَالِكُ: «ربي، لا تميتَني، فأنا لم ألمسها، ألم يدَّعى بنفسه أنها أخته، وهي بنفسها أدعت أنه أخوها؟ فأنا بريء تمامًا من ذنبها». فقال له الله: «نعم، أعلم أنك بريء، ولهذا منعتك عن أن تُذنب في حقي وتلمسها. الآن رُدّ المرأة لزوجِها، فأنه نبي من المُصطفين، فيدعو لك، فلا تموت وتحيا نفسك، وإن لم تردها تهلك أنت وكل شعبك».
وفي الصّباح الباكر استدعَى أَبِيمَالِك جميع معاونيه، وحين حكى لهم عن الحلم خافوا كلهم وفزعوا. ثمّ استدعى أَبيمَالِكُ النبي إبراهيم وقال له: «يا إبراهيم، ما هذا الذي فعلت بنا؟ وما الذي اذنبته في حقِك حتى جَلَبْتَ عَلَيَّ وَعَلَى شعبي هَذَا الذنب الْعظيمَ؟ لماذا أخفيت عني أن سارة زوجتك يا إبراهيم؟» فقال له النبي إبراهيم: «يا أبيمالك، فعلت هذا لأنني ظننت أنه لا أحد هنا يتقي الله، فخفت أن يقتلوني ليأخذوا زوجتي مني. وفي الحقيقة هي بالفعل أختي من أبي لكن ليست شقيقتي، ثم أصبحت زوجتي. يا أبيمالك، من يوم أمرني الله أن أرحل عن بيت أبي، ونحن نعيش غرباء حتى اليوم. لذلك قلت لزوجتي: يا سارة، أصنعي معي معروفاً، وفي كل مكان نذهب إليه، قولي أني أنا أخوكِ ولا تقولي أنكِ أنتِ زوجتي.»
بعدما سمع أبيمالك كلام النبي إبراهيم، رَدَّ إليه سارة زوجته، واعطاه غنم وبقر وعبيد وجواري. وقال له: «يا إبراهيم، ها هي أرضنا أمامك، وأنت حر تسكن في أي مكان شئت فيها. وأنت يا سارة: فلا ذنبَ لكِ، وأنا أعطيت زوجِك ألف قطعة من الفضة، تعويضًا لكِ أمام الجميع عن الضرر الذي أصابك». وكان الله قد ضرب بيت أَبِيمَالِكُ بالعقم لأنه أخذ سارة زوجة النبي إبراهيم. لكن بعد أن تشفع له النبي إبراهيم شفاهم الله من العقم الذي أصابهم.
21
قصة إسحاق
(وبعد أن رحل النبي إبراهيم من عند أبيمالك في مدينة جرار، سكن في منطقة بئر السبع جنوب ساحل فلسطين.) وهناك وفىَ الله وعدَه لسارة، كما سبق وبشرَ النبي إبراهيم، حين زارته الملائكة قبل سنة. وبالرغم من أن النبي إبراهيم كان شيخًا تقدم به السن، إلا أن سارة حملت وأنجبت له ولد. فَدَعَا النبي إِبْرَاهِيمُ ابْنَهُ إسحاق «ومعناه الضاحك من الفرحة». وفي اليومِ الثامن، ختن النبي إبراهيم ابنه إسحاق، كما أمره رب العالمين. وحين رَزق الله النبي إبراهيمُ بإِسْحاق، كان عمره مئة سنة. حينها قالت سارة: «قد ضحكت حين بشرني ربي، وكل مَن سيسمع عني، سيضحك من الفرحةِ مثلي. مَن كان يتوقع أن أُنجب لإبراهيم بنين؟ لكن ها أنا وقد وَلَدْتُ له ٱبْنًا وهو شيخًا من المسنين.»
وعد الله لهاجر
وكبر إسحاق، ويوم فطامهِ أقام له النبي إبراهيم إحتفال عظيم. وفي يوم من الأيام، رأت سارة إسماعيل أبن هاجر يلعب مع أبنها إسحاق، فقالت للنبي إبراهيم: «يا إبراهيم، اطرُدْ هَذِهِ الجارِيَةَ وَابْنَها بَعِيداً عني ، فلن يكون أبنها وريثك مع أبني». فحزن النبي إبراهيم شفقةً على ابنه إسماعيل. فقال له الله: «يا إبراهيم، لا تحزن على هاجر وإسماعيل. فاسمع لما تقول زوجتك، لأن إسحاق هو مَن سيرث أسمك. أما إسماعيل أبن هاجر، فسأجعل من نسله أمةً عظيمةً.»
وفي الصباح الباكر أعطَى النبي إبراهيم لهاجر قليلاً من الخبز، ووضع على كتفِها قربة ماء، ثم صرفها مع أبنِها. فمشت مع أبنها في برية بِئْرِ السَبْعٍ، هائمةً من مكانِ لمكان دون أن تعرف طريقها. ولما فرغ ماءُها، أجلست الصبي تحت شجرةٍ صغيرةٍ، ومشت مسافةً قليلةً بعيدًا عن مكانه. وقالت: «لا أتحمل أن أرَى أبني يموت أمام عيني» وبكت بمرارةٍ على ابنهِا. وسمع الله صوت بكاء الصبي، فنادى ملاك الله هاجر من السماء وقال لها: «ما لكِ يا هاجر، لا تخافي، فقد سمع الله بكاء الصبي. قومي وخذي بيد الصبي، لأني سأجعل أمةٌ عظيمة من نسل أبنك إسماعيل» فهداها الله وفتح عيونها ورأت بئر ماء، فمشت للبئر وملئت قربتها وسقت ابنها. وبارك الله في إسماعيل، وحين كبر الصبي أصبح ماهرًا في الصيد والرماية. وأتخذت هاجر لإسماعيل زوجةً مصرية، وعاش في برية فاران.
النبي إبراهيم وأبيمالك في بئر السبع
وبعد أن أبْعَدَ النبي إبراهيم هاجر وإسماعيل، جاء أَبِيمَالِكُ ملك مدينة جرار، ومعه فيكول قائد جيشِه، وقال للنبي إبراهيم: «يا إبراهيم، أعرف أن الله يبارك في كل أعمالك. وأريد منك وعدًا أمام الله، أَلاَ تَغْدُرَ بِي وَلاَ بِذُرِّيَّتِي، بل تعاملني بالمعروف أنا وشعبي، كما عاملناك بالمعروف حين عشتَ مغتربًا بيننا.» فقال النبي إبراهيم: «أقسم لك، لكن دعني أقول لك، أن عبيدك قد أستولوا على بئر ماء أنا حفرتها.» فقال أَبِيمَالِكَ: «يا إبراهيم، بالحق لا أعلم مَن الذي استولى على بئرِك، فأنت لم تخبرني، ولم أسمع بهذا قبل اليوم إلا منك.» فقدم النبي إبراهيم لأَبِيمَالِكَ غَنَماً وَبَقَراً، وعقدوا معاهدةً، بأن البئر التي تنازعوا عليها مملوكه للنبي إبراهيم. ثم فصل النبي إبراهيم سبع نعجاتٍ أخرىَ عن قطيع غنمه. فسأله أَبِيمَالِكَ: «لماذا فصلت هذه النعجات عن الباقيات يا إبراهيم؟» فأجابه النبي إبراهيم: «أقبل مني هذه النعجات السبع، إقراراً منك على أن هذا البئر ملكي» فسُمّي هذا المكان بئرَ السبع (أو بئر القسم)، لأَنَّ النبي إِبْرَاهِيمَ أعطَى لأَبِيمَالِكَ سبع نعجات، حين اقسموا وعقدوا المعاهدة بينهم.
وبعد إتمام المعاهدة عند بئر السبع، قام أَبِيمَالِكُ وَفِيكُولُ قائد جَيْشِهِ، ورجعا في طريقهِما إلى مدينة جرار، في أرض فلسطين. وغرس النبي إبراهيم عند بئر السبع شجرةً تنبت في الصحراء، وجعلها علامةً مكان مقدس لعبادة الله، وتعبّد النبي إبراهيم هناك لله للحي القيوم رب العالمين. وبعدها عاش النبي إبراهيم مغتربًا فترة طويلة، في منطقة بئر السبع جنوب ساحل فلسطين.
22
الإبتلاء العظيم: أضحية النبي إبراهيم
وَبَعْدَ فَتْرَةٍ مِنَ إقامة النبي إبراهيم في بئر السبع، شاء الله تعالى أن يمتحن إيمان النبي إبراهيم. فناداه الله عز وجل: «يا إبراهيم». فاجاب النبي إبراهيم: «لبيك ربي، هَأَنَذَا». فقال الله للنبي إبراهيم: «خذ أبنك حبيبَ قلبِكَ، وارحل إلى أرض مُوريّة، وقدمه أضحية لي على جبل سأجعلك تراه هناك.» وفي فجر اليوم التالي قام نبي الله إبراهيم، فأخذ الحطب الذي سيحرق عليه الأضحية وجهز حماره، وأخذ معه أبنه وأثنين من خدمِه، ورحل إلى المكان الذي أمره الله بالذهاب إليه. وبعد ثلاثة أيام من السفر رأى النبي إبراهيم المكان من بعيد. فقال النبي إبراهيم لخادميه: «إنتظرا هنا، وأنا سأصعد إلى الجبل مع أبني لنتعبد لله، ثم نعود». ثم وضع النبي إبراهيم الحطب على كتفِ أبنَهُ، وأمسك هو في يدهِ شعلة النار وفي يده الأخرى السكين، وصعدا إلى الجبل. وبينما هما في الطريق قال الولد لأبيه: «يا أبي!»، فَقَالَ النبي إبراهيم: «نعم يا بُنَي». فَقَالَ الولد: «يا أبي، ها هي النار والحطب، لكن إين هي الأضحية؟» فرد عليه النبي إبراهيم: «يا بُني، الله يرَى وسيدبر الأضحيه». واستمرا يصعدان الجبل. ولما وصلوا إلى المكان الذي جعله الله يراه، أقام النبي إبراهيم مكان لتقديم الأضحية، ووضع عليه الحطب ثم ربط ابنه ووضعه على الحطب. ثم أخذ النبي إبراهيم السكين واستعد ليذبح ابنه. لكن ملاك الله ناداه من السماء: «يا إبراهيم! يا إبراهيم!». فَقَالَ النبي إبراهيم: «لبيك، هَأَنَذَا». فَقَالَ له ملاك الله: «لا تمسَ ابنك وابعد عنه السكين، قد علم الله انك تتقيه، لأنك رضيت أن تضحي بأبنك حبيب قلبك.» بعدها نظر النبي إبراهيم فرأىَ كبشًا عظيمًا، معلقًا من قرنيه على شجرة. فقدم النبي إبراهيم الكبش أضحية لله بدلاً من أبنه. فدعى النبي إبراهيم هذا المكان «الله يرَى ويدبر». ومن يومهِا والناس تقول المثل: «فِي جَبَلِ الرب: الله يرَى ويدبر». ثم مرة أخرى نادىَ ملاك الله من السماء النبي إبراهيم وقال: «يا إبراهيم، لأنك رضيت، ولم تمتنع عن التضحية بأبنك حبيب قلبك، فإن الله يَعّدَك ويقول لك: سابارك فيك وفي ذريتك أجمعين، فيكون عددهِم كنجوم السماء ورمل البحر، وانصرهم على اعدائهِم ويغنموا أملاكهمِ. وستطلب أمم الأرض البركة كما باركت نسلك، لأنك سمعت واطعت يا إبراهيم» ثم نزل النبي إبراهيم مع أبنه من الجبل وأخذ خادمَيهِ، وعادوا إلى منطقة بئر السبع.
نسل ناحور أخو النبي إبراهيم
وبعد مرور فترة من الزمن، سمع النبي إبراهيم أنّ أخيه ناحور قد أنجب ثمانية أولاد من زوجته مِلْكَة، كان البكر أسمه عوص، بعدها أنجبت بُوز، ثم أنجبت قموئيل أبو الأراميين، ثم أنجبت خمسة أولاد أخرين وهم: كاسد وحزو وفِلداش ويدلاف، وأخر أبناء ناحور كان اسمه بتوئيلَ، وهو الذي سينجب رفقة التي ستصبح زوجة النبي إسحاق وأماً للنبي يعقوب. وكان عند ناحور أيضًا جاريّة اسمها رُؤومَةَ، وأنجبت له رُؤومَةَ أربعة أولاد أخرين، وهم: طابَح وجاحَم وتاحَش ومَعْكَة. (فكان عدد أولاد ناحور أخو النبي إبراهيم أثنى عشر ولدًا.)
23
وفاة سارة زوجة النبي إبراهيم
(بعد فترةٍ من تقديمِ الأضحية، وعودتهم إلى بئر السبع فِي أَرْضِ كنعان، انتقل النبي إبراهيم إلى منطقة حبرون الخليل.) وهناك توفت سارة، وقد بلغت من العمر مئةً وسبعًا وعشرين سنة. فحزن عليها كثيرًا النبي إبراهيم. (وحين توفت سارة كان النبي إبراهيم قد بلغ من العمر مئة وسبعة وثلاثين سنة، وإسماعيل كان في الحادية والخمسين، وإسحاق كان في السابعة والثلاثين.) ثم قام النبي إبراهيم من عندِها وذهب إلى شيوخ منطقة حبرون الخليل وقال لهم: «يا سادة، زوجتي ماتت وأنا غريبٌ أعيش بينكم، وليس عندي أرض أدفن فيها زوجتي، فاسمحوا لي أن أشتري قطعةً من أرضِكم.» فقال له شيوخ المنطقة: «أسمع لنا يا سيد إبراهيم، أنت سيدًا مُكرمًا بيننا، فاختار أفضل مكانٍ لتدفن زوجتك في أرضنا، ولن يمنع عنك مقبرتَه أحد منا». فقام النبي إبراهيم وانحنى احترامًا لهم، ثم قال: «أسمعوا يا سادة ما أقول لكم، إِنْ رضيتمْ، فدعوني أدفن زوجتي في أرض عفرون بنِ صوحر. فتوسطوا لي عنده ليبيع لي كهف المكفيلة الذي في أطراف مزرعته. وأنا أدفع له الثمن كاملاً أمامكم.» وكان عَفرون بن صوحر جالسًا بينهم عند بوابة المدينة، فقال للنبي إبراهيم: «اسمع يا سيدي، أني أعطيك المزرعة والكهف هدية مني أمام قومي، فخذها وأدفن فيها زوجتك.
فقام النبي إبراهيم وانحنى مرة أخرى احتراماً لهم، وقال: «اسمح لي يا سيد عِفْرُونَ بين صوحر، أنا سأدفع لك ثمن المزرعة كاملاً، فتقبل عرضي ودعني أدفن زوجتي.» فقال عفرون بن صوحر للنبي إبراهيم: «اسمع يا سيد إبراهيم: المزرعة ثمنها أربع مئة قطعة من الفضّة، وهذا ثمن لا قيمة له بيننا يا إبراهيم، فخذها وأدفن زوجتك». فوافق النبي إبراهيم على الثمن الذي حدده عِفْرُونَ بن صوحر. ودفع له أربع مئة قطعة من الفضّة، أمام شيوخ المنطقة الموجودين.
وهكذا اشترى النبي إبراهيم مزرعة عِفْرُونَ بن صوحر وكل الأشجار التي فيها وكهف المكفيلة، أمام كل شيوخ المنطقة المجتمعين. فدفن النبي إبراهيم زوجته سارة في كهف المكفيلة، في منطقة حَبْرُونُ الخليل التي في أرض الكنعانين.
24
زواج النبي إسحاق
وحين تقدم العمر بالنبي إبراهيم (وبلغ مائة وأربعين سنة، كان قد مر على موت سارة ثلاث سنوات،) وكانت بركة الله في كل عمل النبي إبراهيم. وفي يوم من الأيام استدعَى النبي إبراهيم رئيس خدمِه، والوكيل على كل أعمالِه وقال له: «اِحْلِفْ لي يا رئيس خدمي، وعاهدني أمام الله رب السماوات والأرض، ألا تأخذ لأبني زوجة من بنات الكنعانيين الذين نعيش بينهم. بل تذهب إلى أهلي في منطقة حاران، التي في أرض ما بين النهرين، وتأخذ لأبني إسحاق زوجةً من أهلي الأقربين». فقال له رئيس خدمه: «يا سيدي، وماذا أفعل لو لم ترغب الفتاة في العودة معي لتسكن هنا في كنعان، فهل يذهب أبنك إسحاق ليتزوج ويعيش هو هناك في حاران؟» فقال له النبي إبراهيم: «لا تجعل أبني يخرج من هذه الأرض أبدًا، فالله رب السموات والأرض الذي أخرجني من بيت أبي وأرض أهلي، قد عاهدني وقال لي، أنه وهب هذه الأرض لي ولذريتي. فالله سيرسل أمامك ملاك حتى تنجح في مهمتك وتجد هناك زوجة لأبني. وإن رفضت الفتاة أن تأتي إلى هنا معك، فأنت في حِلٍّ من هذا العهد، لكن لا تأخذ ابني ليرجع معك إلى هناك أبدًا». فحلف رئيس الخدم بأن يفعل كما أمره النبي إبراهيم.
فجهز رئيس الخدم عشرة من جِمالِ مولاه إبراهيم، وحَمِّل الجمال بمختلف أنواع الهدايا الثمينة، ورحل إلى أرض ما بين النهرين حيث كان يسكن ناحور أخو النبي إبراهيم. وبعد سفر طويل، وصل الخادم مع القافلة بالقرب من مدينة حاران وقت الغروب، فأخذ الجمال إلى بئر ماء خارج المدينة. وكانت بنات المدينة تخرجن في هذا الوقت لسقاية الماء من البئر. فدعى خادم النبي إبراهيم لله وقال: «اللهم رب مولاي إبراهيم يسر لي أمري، وأحفظ عهدك اليوم مع مولاي إبراهيم ووفقني في أن أجد زوجة لإسحاق أبن سيدي. فها أنا ذا عند بئر الماء، وها هي بنات المدينة قادمة إلى هنا لتستقي الماء من البئر. وأنا سأطلب من فتاة منهن أن تسقيني الماء من جرتها، ولتكن الفتاة التي تقول لي: أشرب، وسأسقي جمالك أيضًا تكون هي الفتاة التي أخترتها أنت زوجة لإسحاق وفاءًا لعهدك مع مولاي إبراهيم.»
وقبل أن يتم الخادم دعائه، جائت فتاة رائعة الجمال إلى بئر الماء تحمل جرتها على كتفِها، وكانت هي رِفْقَةَ ابنة بَتُوئِيلَ ابْنِ مِلْكَةَ زوجة نَاحُورَ أخو النبي إِبْرَاهِيمَ. فجائت الفتاة إلى بئر الماء ومَلأَتْ جرتها. وقبل أن ترجع، قام خادم النبي إبراهيم وجرَى ناحيتها وقال لها: «يا صبية، ممكن أن تسقيني من جرتك بعض الماء؟» فاسرعت الفتاة وانزلت جرتِها من على كتفِها وقالت له: «تفضل وٱشْرَب يا سيدي». وبعد أن شرب قالت له: «يا سيدي، أنا سأسقي جمالك كلها أيضًا». وبسرعة جرت الفتاة لحوض الجمال وأفرغت فيه الماء الذي في جرتها، وظلت تجري إلى البئر تملأ جرتها وتعود إلى الحوض لتفرغها، حتى سقت الجمال كلها. وظل خادم النبي إبراهيم صامت ينظر إليها وهي تعمل، ليعلم إن كانت هي الفتاة التي اختارها الله زوجة لأبن مولاه إبراهيم.
وحين شربت الجمال كلها، قدم خادم النبي إبراهيم للفتاة حلق ذهبي لأنفها وسوارين من الذهب هدية لها. ثم قال لها: «بنت مَنْ أَنْتِ؟ وهل هناك مكان نَبِيتُ فيه في دارِكم؟» فقالت له الفتاة: «أنا بنت بَتوئيل ابن مِلْكة وناحور. ولدينا مكان لِتَبِيتُوا في دارِنا، ولدينا علف كثير لجمالك أيضًا». فسجد خادم النبي إبراهيم شكرًا لله، وقال: «لك الحمد يا إله مولاي إبراهيم، لأنك وفيت برحمتك لسيدي الكريم، وأرشدتني في طريقي لبيت أخو مولاي إبراهيم».
فأسرعت الفتاة إلى بيت أهلها وأخبرتهم بكلّ ما حدث معها. وكان لدىَ رفقة أخ اسمه لابان. وحين سمع لابان كلامها ورأىَ الحلق في أنفها والسوارين في يدها، أسرع للقاء خادم النبي إبراهيم الذي كان واقفًا مع القافلة عند البئر. فقال له لابان: «يا مَن باركه الله تفضل في دارنا. لماذا تقف هنا؟ فالدار مهيئة لضيافتكم، وقد جهزنا أيضًا مكانًا لجمالكم». فذهب خادم النبي إبراهيم مع لابان إلى البيت، وأنزل خدم لابان الأحمال وقدموا العلف للجمال، واحضروا الماء ليغسل خادم النبي إبراهيم والرجال الذين معه أرجلهم.
ثم قدم خدم لابان الطعام، لكن خادم النبي إبراهيم قال: «عفواً يا سيد لابان، قبل أن أكل دعوني أقول لكم سبب مجيئي إلى هنا». فقال له لابان: «تفضل وقل ما عندك». فقال: أنا خادم مولاي إبراهيم، قد أكرم الله مولاي إبراهيم وبارك له كثيرًا فأصبح رجل غني عظيم. ورزقه الله بغنم وأبقار وجمال ودواب وفضّة وذهب وعبيد وجواري مملوكين. وسارة زوجة مولاي إبراهيم أنجبت له ولدًا وهي عجوز من المسنين، وأبوه قد وهب له كل أملاكَهُ وهو وريث مولاي إبراهيم. ((((من آية 37 إلى آية 48) ثم أخبرهم كبير الخدم عن وصية مولاه النبي إبراهيم، وعن العهد الذي عاهده عليه، وكيف أتم رحلته من أرض كنعان إلى أن وصل عند البئر قُرب حاران ، وكيف يسر له الله أن يقابل أبنتهم رفقة. وثم قال لهم: ))) وفي يوم استدعاني مولاي إبراهيم وقال لي: «أحلف لي أمام الله رب السماوات والأرض ألا تأخذ لأبني زوجة من بنات الكنعانيين الذين نعيش بينهم. بل تذهب إلى أهلي في منطقة حاران أرض ما بين النهرين، وتتخذ لأبني إسحاق زوجة من أهلي الأقربين.» فقلتُ لمولاي: «يا سيدي، وماذا أفعل لو لم ترغب الفتاة في العودة معي لتسكن هنا في كنعان؟» فقال لي: «الله رب السموات والأرض الذي أمنتُ به سيرسل أمامك ملاك حتى تنجح في مهمتك وتجد هناك زوجة لأبني. وإن رفضت الفتاة أن تأتي إلى هنا معك، فأنت في حِلٍّ من هذا العهد». واليوم حين وصلنا إلى بئر الماء دعوت الله وقلت: «اللهم رب مولاي إبراهيم يسر لي أمري، ووفقني في أن أجد زوجة لإسحاق أبن مولاي إبراهيم. وها أنا أقف عند بئر الماء، وها هي بنات المدينة قادمة إلى هنا لتستقي الماء من البئر. وأنا سأطلب من فتاة منهن أن تسقيني الماء من جرتها، ولتكن الفتاة التي تقول لي: أشرب، وسأسقي جمالك أيضًا تكون هي التي أخترتها أنت زوجة لإسحاق أبن مولاي إبراهيم.»
وقبل أن أتم دعائي، جائت بنتكم رفقة إلى بئر الماء تحمل جرتها على كتفِها، ونزلت للبئر وملئت جرتها، فقلت لها: «من فضلك اسقيني». فاسرعت وانزلت جرتِها من على كتفِها وقالت لي: «تفضل وٱشْرَب يا سيدي، وأنا سأسقي جمالك أيضًا.» فشربت أنا وسقت هي الجمال كلها. ثم سألتها: «بنت مَنْ أَنْتِ؟ فقالت لي: «أنا بنت بَتوئيل ابن مِلْكة وناحور.». فوضعت حلقٍ ذهبي في أنفها وسوارين في يدها، وسجدت أشكر الله، الذي أرشدني في طريقي لبيت أخو مولاي إبراهيم وهداني إليكم». والآن إن كنتم تقبلون إسحاق ابن مولاي إبراهيم زوجًا لإبنتكم فاظهروا الوفاء لسيدي. وإن لم يكن فاعلموني لأذهب إلى مكان آخر لأتمم مهمتي». فأجاب لابانُ وبَتوئيلُ: «إن كان هذه هي مشيئة الله، فلا رأي لنا أن نقول نعم أو لا! هَا هي رِفْقَةُ أمامك، خذها وأرجع بها معك لْتَكُنْ زوجةً لِٱبْن مولاك، ولتكن مشيئة الله». فلما سمع خادم النبي إبراهيم ردهم، سجد على الأرض يشكر الله. ثم أخرج خادم النبي إبراهيم من متاعِه مجوهرات من ذهب وفضة وثياب فاخرة وقدمها لرفقة، كما قدم هدايا وثياب ثمينة لأَخَيهَا وَأُمّها.
وبعد العشاء بات خادم النبي إبراهيم والرجال الذين معه في ضيافتهم. وفي الصباح قال خادم النبي إبراهيم لأهل رفقة: «أسمحوا لي بالعودة إلى مولاي إبراهيم». فقالوا: «تمهل ودع رفقة تبقى معنا اسبوع أو عشرة أيام، ثم يمكنك بعدها أن تذهب بها». فقال خادم النبي إبراهيم: «لا تؤخروني، فالله قد يسر أمري. دعوني أرجع إلى مولاي إبراهيم». فقالوا: «دعنا أذن نسأل رِفْقَةَ عن رأيها». فنادوا رِفْقَةَ وسألوها: «يا رفقة، هل ترغبين في الذهاب معه الآن؟». فقالت رِفْقَةَ: «نعم، أذهب». فوافقوا. وقبل أن تذهب رفقة ومربيتها ديبورا مع خدم النبي إبراهيم، بارك لها أهلها وقالوا: «يا أختنا رفقة، بارك الله فيكي وفي ذريتك، ويجعل نسلك كثير، ويَنْصُر نسلك على أعدائِهم.» فقامت رفقة ومعها خادماتها وركبن الجمال ورحلن مع خادم النبي إبراهيم.
وفي هذا الوقت كان النبي إسحاق يقيم في جنوب صحراء النقب، بعدما رحل من منطقة البئر التي سمتها هاجر أم إسماعيل القدير بحالي بصير. وفي تلك الليلة خرج النبي إسحاق في البرية يتأمل في الكون. فرأى قافلة جمال قادمة في الطريق، فتوجه نحوها. وحين رأت رفقة إسحاق قادم نحوهم، نزلت بسرعة من على الجمل وقالت لخادم النبي إبراهيم: «مَن هذا الرجل القادم لإستقبالنا؟» فقال خادم النبي إبراهيم: «هذا سيدي إسحاق إبن مولاي إبراهيم.» فغطت رفقة بالحجاب وجهها. وحين وصلوا، روىَ الخادم للنبي إسحاق كل ما قام به وما حدث معه. فتزوج إسحاق أبن النبي إبراهيم من رفقة بنت بتوئيل أبن ناحور أخو النبي إبراهيم. ودخل بها في خيمة أمه سارة، وأحبها فكانت رفقة عزاء له عن فراق أمه بعد ثلاث سنوات من موتِها.
25
نسل قطورة زوجة النبي إبراهيم
بعد وفاة سارة تزوج النبي إبراهيم من امرأة اسمها قطورة (واسمها معناه: بخور). وأنجبت له قطورة ستة من الولدان، وهم مِديَن وزِمران ويِشباق ومَدان وشُوحا ويَقشان. وأنجب يقشانُ ولدان: وهما شَبا ودَدان، ومن أولاد دَدان جائت قبائل الأشُّوريون واللَطوشيون واللأُمِّيون، وأنجب مِديَن خمسة أولاد وهم عَيفَة وعِفر وحَنوك وأبيداع وألْدَعَة. كل هؤلاء أولاد وأحفاد قطورة زوجة النبي إبراهيم الذين سكنوا في المنطقة العربية. وكان النبي إبراهيم قد وهب لأبنائه من هاجر وقطورة الكثير من العطايا، ثم صرفهم ليسكنوا في المنطقة العربية بعيدًا عن أبنه إسحاق. وبعد موت النبي إبراهيم ورث النبي إسحاق كل أملاك النبي إبراهيم.
وفاة النبي إبراهيم
(كان النبي إبراهيم في سن الخامسة والسبعين حين خرج مع زوجته سارة ولوط إبن أخوه من مدينة حاران في بلادِ ما بين النهرين. ثم أرتحل مئة سنة متنقلاً من مكان إلى مكان في بلاد الكنعانيين.) وعاش النبي إبراهيم حياة الصديقين وتوفاه الله شيخاً تقياً حين بلغ مئة وخمسًا وسبعين سنة ولحق بأسلافه الصالحين. فدَفَن إسحَق وإسماعيل أباهم في كهف المكفيلة الذي كان أشتراه النبي إبراهيم من عَفرون بن صوحر ليدفن فيه زوجته سارة في حبرون الخليل. وبعد وفاة النبي إبراهيم بارك الله لأبنه إسحاق، ورجع ليسكن عند البئر الذي سمته هاجر بئر «الحي القدير بحالي بصير».
مواليد إسماعيل
وكان إسماعيل أبن النبي إبراهيم وهاجر المصرية قد أنجب اثني عشر ولدًا: وهذه أسماؤهم حسب ترتيب ولادتهم: نبايوت، وقيدار وأدَبْئيل ومِبْسام ومِشماع ودومَة ومسَّا، وحَدار وتيما ويَطور ونافيش وقِدْمَة. وكل أولاد إسماعيل الأثنى عشر أصبحوا رؤساء قبائل، وعاشوا في مناطق سُميت بأسمائهم في الآراضي العربية. وحين مات إسماعيل كان قد بلغ من العمر مئة وسبعة وثلاثين سنة.
نسل إسحاق
وهذه قصة النبي أسحاق حين تزوج وهو في سن الأربعين من رفقة أخت لابان وبنت بَتوئيل الذين كانوا يسكنون في آرام أرض ما بين النهرين. لكن رفقة عاشت عشرين سنة مع النبي إسحاق دون أن تنجب له أولاد، فتضرّع النبي إسحَق إلى الله من أجل زوجته العقيم، واستجاب الله للنبي إسحاق. وحملت رفقة في توأمين، وتزاحم في بطنها الولدان، فقالت: «يا الله، لماذا يحدث لي كل ذلك؟» فقال لها الله: «يا رفقة، في بطنكِ ولدان، ومن كل واحد منهما سيخرج شعب، الصغير أقوى من الكبير، والكبير يخضع للصغير».
ولما جاءت ساعة ولادة رفقة، خرج الولد الأوّل وكل جسمِهِ مُغَطى بشعر كثيف أحمر، فسمّوه عيسو (ومعنى الأسم الأحمر). وبعدها خرج الولد الثاني وهو مُتعلق في عرقوب قدم أخوه، فسمَّوه يعقوب (ومعنى الأسم المُتعقب). وكان النبي إسحَاق قد بلغ سن الستِّين حين أنجبت له رِفقة التوأمين.
وكبُرَ الولدان، وأصبح عيسو صيَّادًا ماهرًا يميل لحياة البرية، لكن يعقوب كان راعي غنم يميل للحياة الهادئة بين الخيام. وكان النبي إسحاق يُفَضِّلُ عيسو لأنه كان يحب أن يأكل من صيد البرية، أما رفقة فكانت تُفَضِّلُ يعقوب.
عيسو يستهين بحق الأبن البكر
وفي يوم من الأيام، حين كان يعقوب يطبخ حساء العدس، عاد عيسو من الصيد في البرية جَائِعًا. فقال لأخيه: «يا يعقوب، أنا أموت من الجوع فأطعمني من هذا الحساء الأحمر». لهذا لُقب عيسو «أَدُومَ»، ومعناه أحمر. فقال يعقوب: «يا عيسو، إن تنازلت لي عن حق الأبن البكر، اعطيتك تأكل». فقال عيسو: الجوع يقتلني، وحق الأبن البكر الآن بماذا ينفعني؟» فقال له يعقوب: «لن أعطيك شيئًا إلا بعد أن تحلف لي أولاً». فاستهان عيسو بحق الأبن البكر وأقسم ليعقوب وتنازل له عن حق البكورية . فأعطى يَعقوب لأخيه عيسو خبزاً وحساء العدس.، فَأكل عيسو وشرب ثُمّ قام ومَضى في سبيلِه.