قصة يشوع بن نون "فتَى موسَى"

مقدمة

كتاب "سفر يشوع" يتناول سيرة يشوع بن نون "فتَى موسَى" الذي أرشد الله النبي موسى ليختاره قائدًا وخليفة له على بني إسرائيل قبل أن يموت. نجد في هذا الكتاب وصف لأحداث وتفاصيل دخول بني إسرائيل أرض كنعان تحت قيادة يشوع بن نون. وكيف قسم يشوع بن نون الأرض التي أستولوا عليها على قبائل بني إسرائيل. كما أن الأحداث في هذا الكتاب تسجل وفاء الله بالوعد الذي قطعه مع جدهم إبراهيم بأن يهب له هذه الأرض ويجعل نسله يرثها من بعده. نجد في أحداث الكتاب ايضًا أنه حين كان بني إسرائيل متوحدين في طاعة الله، تمكنوا من دخول الأرض والإستيلاء عليها. وكانوا قادرين على غزو مدن أرض كنعان، حتى المدن التي كانت محصنة بأسوار قوية مثل مدينة أريحا. ونجد في نصوص الكتاب أيضًا كيف أن الله أرشد يشوع بن نون ليقسم أراضي كنعان على قبائل بني إسرائيل حتى قبل أن يستولوا على كل أرض كنعان. ثم ينتهي الكتاب بالوصية التي أوصى بها يشوع بن نون بني إسرائيل، والتي شدد فيها عليهم بالتمسك بإيمانهم بالله والإخلاص في طاعته. ثم التأكيد عليهم مرة أخرى حين جمعهم في مدينة شكيم لتجديد عهدهم مع الله بأن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا به آلهة أخرَى.

1

يشوع بن نون يتولى قيادة بني إسرائيل

وبعد وفاة موسَى، أوحىَ الله ليوشع بن نون خليفة النبي موسَى وقال له: «يا يشوع ها قد وفىَ عبدي موسىَ أجله، فالآن تجهز أنت وكلُّ هذا الشعبِ لتعبروا نهرَ الأردن إلى الأرض التي وهبتها لكم. وكما وعدت موسَى، ستكون كل أرض كنعان ملكًا لكم. يا يشوع، أنا سأكون معك ولن يقدر أحدٌ أن يهزمك، وكما كنت مع موسىَ سأكون معك وأرشدك. يا يشوع، قد سبق ووعدت آبائكم أني سأعطي هذه الأرض لنسلكم. فتشجع وكن قويًا! وتمسك بكل ما وصاك به عبدي موسَى، وأحرص على قراءة التوراة التي أعطاها موسَى لكم، وتأمل ليل نهار في كل ما قاله موسَى لكم. فلو أطعتم وتمسكتم بما أمرتكم، يمكنكم أن تأخذوا الأرض التي وهبتها لكم. فأثبت أذن يا يشوع وتشجع فأنا كفيتك، وحيثما توجهت أكون في رفقتك.» بعد ذلك أمر يشوع بن نون قادة أسباط بني إسرائيل وقال لهم: «يا قادة بني إسرائيل، بعد أيام قليلة سنعبر نهر الأردن لنأخذ الأرض التي وهبها الله لنا. فجهزوا الطعام الذي ستحتاجون إليه في الطريق». ثم قال يشوع بن نون لقادة أسباط رأوبينَ وسبط جادِ ونصفِ سبط منسَّى، الذين كانوا قد اختاروا أن يسكنوا شرق نهر الأردن: «يا قادة أسباط رأوبينَ وجادِ ومنسَّى، نبي الله موسَى قد قال لكم أن هذه الأرض شرق نهر الأردن قد أعطاها الله لكم. فالآن يمكنكم ان تبقوا هنا نسائِكُم وأطفالِكُم وحيواناتِكُم. لكن يجب عليكم أولاً أن تساعدوا أخوانكم ليأخذوا الأرض التي في غرب نهر الأردن.» فقالوا: «يا يشوع بن نون، سنعبر نهر الأردن لنساعد أخواننا، وسنحارب معكم حيثما أرسلتنا. يا يشوع، إن كان الله معك وكما ساعد موسَى سيساعدك، فسنطيعك كما أطعنا موسَى. وسنعاقب بالقتل كل مَن لا يطيعك ويتمرد عليك»

2

جواسيس يشوع في بيت رحاب

وبعد أن تكلم يشوع بن نون مع قادة بني إسرائيل في مخيم شطيم مقابل أريحا، أختار أثنين من الرجال ليذهبا سرًا لإستطلاع أرض كنعان، وقال لهما: «أذهبا انتما الأثنان عبر نهر الأردن واستطلعا أرض كنعان، وخاصة مدينة أريحا.» فذهب الرجلان وعبرا نهر الأردن. ولما وصلا أريحا، دخلا بيت ضيافة لإمرأة أسمها رحاب ليقضيا فيه الليلة. لكن واحد من سكان أريحا رأىَ الرجلان في بيت رحاب، وعرف أنهما جاسوسان من بني إسرائيل. فبلغ ملك المدينة وقال له: «دخل رجلان من بني إسرائيل المدينة الليلة، وهما جاسوسان». فأرسل ملك أريحا جنوده إلى بيت رحاب ليقبضوا على الجاسوسين. لكن رحاب كانت قد خبأت الرجلين بين كومات عيدان الكتان التي على سطح دارها. فجاء جنود الملك إلى باب بيت رحاب وقالوا: «يا رحاب، أخرجي لنا الرجلين اللذين دخلا بيتك فقد جائا ليتجسسا على أرضنا.» فقالت رحاب لجنود الملك: «نعم بالفعل جاء إلى بيتي رجلان، لكن لا أعرف من أين جاءا، وقد خرجا وقت الغروب حين تُقفَل بوابة المدينة، ولا أعرف إلى أين ذهبا. فإن اسرعتم ورائهما يمكن أن تلحقوا بهما.» فذهب جنود الملك وخرجوا من المدينة ليبحثوا عن الجاسوسان في إتجاه الشرق على طريق نهر الأردن كما أشارت عليهم رحاب. وبعد ما خرج جنود الملك أُغلقَت أبواب المدينة مرة أخرى، فلم يكن باستطاعة الجاسوسان أن يخرجا من المدينة وأصبحا محاصران في بيت رحاب. وبعد ما رحل رجال الملك، صعدت رحاب إلىَ الرجلين المختبئين على سطح دارها، وقالت لهما: «أعرف أن إلهكم قد وهب هذه الأرض لكم، وقد تملكنا جميعًا الفزع منكم. فقد سمعنا كيف أخرجكم إلهكم من أرض مصر، وكيف شق لكم البحر الأحمر فعبرتم على اليابس. كما سمعنا كيف قضيتم على سيحون وعوج مَلِكي الأموريين في شرق نهر الأردن. ولقد عرفنا أن إلهكم يملك السماوات وألأرض، فذابت قلوبنا فزعاً منكم وفقدنا عزيمتنا على مواجهتكم. فالآن، اقسما لي بسم إلهكما أن تحسنا لأهل بيتي كما أحسنت أنا إليكما. وأنكم حين تدخلوا أرضنا تحفظوا حياة أبي وأمي وإخوتي وأخواتي وكل ما لنا، واعطوني علامة على أنكما ستفعلان كما أقسمتما» فقال الرجلان: «يا رحاب، إن لم تكشفوا أمرنا نقسم لك أن نحسن إليكم حين يعطينا الله هذة الأرض». وكان بيت رحاب ملاصق لسور المدينة، فأعطت للرجلين حبل، وقالت لهما: خذا هذا الحبل وأنزلا عليه من نافذة الغرفة التي تعلو السور. لكن أنتبها، جنود الملك سيبحثون عنكم ناحية الشرق على طريق نهر الأردن لمدة ثلاثة أيام، فاذهبوا أنتم ناحية الغرب وأختبئوا في التلال. وبعد الثلاثة أيام يمكنكم أن تذهبوا في طريقكم بأمان». فقال الرجلان: «يا رحاب، بالرغم من أن شريعتنا تحرم علينا أننا نعاهد الكنعانين، لكننا نقسم لك أننا نحفظ حياتك أنت وأهل بيتك وكل ما لك، على شرط ألا تكشفوا أمرنا وأن تربطي هذا الحبل الأحمر على نافذة بيتك. وكل مَن كان في البيت الذي عليه الحبل الأحمر سيكون في أمان. والذنب يكون علينا لو لحق أذى بأي شخص موجود في بيتك. لكن كل مَن سيكون خارج بيتك سيُقتَل ولا ذنب علينا» فقالت لهما: «سأفعل كما قولتما!» فانطلق الرجلان في طريقهِما، وربطت رحاب الحبلَ الأحمر في نافذة بيتها. فاختبأ الرجلان في التلال ثلاثة أيام كما أوصتهما رحاب. وبعدما رجع جنود الملك إلى أريحا دون أن يجدوهما، فنزل الرجلان من التلال وعَبَرا نهرَ الأُردن حتَى وصلوا إلَى يشوع بن نون وأخبراهُ بكل ما حدثَ لَهُما. وقالا ليشوع: «بالتأكيد أن الله قد وهب كل هذه الأرض لنا، فكل سكان هذه الأرضِ تملكهم الفزع مما سمعوه عما يفعله الله معنا وذابت قلوبهم رعباً منا.»

3

عبور بني إسرائيل نهر الأردن

وبعد ما سمع يشوع بن نون كلام الرجلان المستكشفان، قام في صباحِ اليومِ التالي وقاد كل بني إسرائيل ورحل بهم من منطقة شطّيمَ المقابلة لمدينة أريحا. ثم خيموا تلك الليلة عند الضفة الشرقية لنهرِ الأُردن الذي كان ممتلئًا في هذا الوقت. وبعد ثلاثة أيام قضوها هناك، فعل قادةُ بني إسرائيل كما أمرهم يشوع بن نون ومشوا بين الناس في المخيمِ، وقالوا للشعب: «يا بني إسرائيل، حين ترونَ الأحبار اللاويين يحملون تابوت عهدِ إلهِكم، قوموا واتبعوه كلكم. فتابوت عهد إلهكم سيهديكم في الطريق التي ستمشون فيها، لأنكم لم تمشوا في هذه الطرق من قبل ولا تعرفوا مسالكها. لكن حين تسيرون، اتركوا مسافة بينكم وبين تابوت العهد المقدس». ثم قال يشوع للشعب: «يا بني إسرائيل، طهروا أنفسكم، لأن غداً سيفعل الله من عجائب قدرته في وسطكم. وأنتم يا أحبار بني إسرائيل، أحملوا تابوت العهد وتقدموا الشعب.» فحمل الأحبار تابوت العهد وتقدموا أمام الشعب كما أمرهم يشوع بن نون، ومشَى ورائهم بني إسرائيل. ثم أوحىَ الله ليوشع بن نون وقال: «يا يشوع، اليوم سأمجدك في عيون كل بني إسرائيل، ليعلموا أني معك كما كنت مع موسَى قبلك. فيا يشوع، أمر أحبار بني إسرائيل الذين يحملون تابوت العهد بأن يدخلوا في نهر الأردن ويقفوا في وسط مجرىَ الماء.» فقال يشوع بن نون للشعب: «يا بني إسرائيل، تعالوا إلَّيَ كلكم واسمعوا ما سيفعله إلهكم، أنتم تعرفون أن قبائل كثيرة من الكنعانيين يسكنون على الضفة الأخرى من النهر، لكن الله الحي سيكون في وسطكم وسيكشف عن قدرته ويطردهم من أمامكم. أسمعوا يا بني إسرائيل، حين يصل الأحبار حاملو تابوت العهد إلى ماء النهر وتلامسه أقدامهم، سيتوقف جريان النهر وتجتمع المياه المنحدرة من التلال كالسد أمام عيونكم. فانظروا يا بني إسرائيل وأتبعوا تابوت عهد إلهكم حين يعبر نهر الأردن أمامكم. وعليكم أن تختاروا اثنَي عشرَ رجلاً من كل سبط من أسباطكم، ليحملوا أثني عشر حجرًا وينقلوها من وسط النهر إلى الضفة الأخرىَ». فرحل بني إسرائيل من المخيم وساروا في إتجاه نهر الأردن، والأحبار يحملون تابوت العهد ويسيرون أمامهُم. وكان موسم الحصاد وماء النهر يفيض على الضفتين. لكن حين وصل الأحبار حاملو تابوت العهد لضفة النهر ووضعوا أقدامهم في الماء، توقف جريان النهر وتجمعت المياه كالسد بعيداً عنهم، فانقطع الماء المنحدر إلى البحر الميت. فوقف الأحبار حاملو تابوت العهد وسط النهر على الأرض اليابسة، فعبر كل بني إسرائيل نهر الأردن، كما عبر آبائهم مع موسَى البحر الأحمر.

4

الأثنى عشر حجرً نصبًا تذكاريًا

وعبر كل بني إسرائيل إلى الضفة الغربية من نهر الأردن، لكن الأحبار حاملى تابوت العهد كانوا ما زالوا واقفين في وسط مجرى النهر. فاوحىَ الله ليوشع بن نون: «يا يشوع، الآن تأمر الرجال الاثنَي عشر الذين أخترتهم من أسباط بني إسرائيل، بأن يدخلوا في وسط مجرىَ النهر، ويأخذ كل واحدٍ منهم حجراً كبيرًا. ويحملوها ويكملوا عبور النهر للضفة الأخرى، ويضعوها في كومة نصبًا تذكاريًا في المخيم الذي سيبيتون فيه الليلة. وحين يسألكم أولادكم: "ما معنى وجود هذه الأحجار بينكم؟" فقولوا لهم: هي تذكار يوم أوقف الله جريان مجرَى نهر الأردن، حين عبر فيه تابوت عهد إلهكم. فتكون هذه الأحجار تذكارًا أبديًا في بني إسرائيل». ففعلَ يشوعُ بن نون كما أمره الله. وجمع الأثني عشر رجلاً وأرسلهم، فاخذوا اثنَي عشرَ حجراً مِن وسطِ مجرَى نهرِ الأردنِّ، كل حَجَرٍ يُمثل سبط من أسباط بني إسرائيل، وحملوها معهُم واقاموها في مُخيمهِم.

وأيضًا نصب يشوع بن نون اثنَي عَشَرَ حَجَراً أخرىَ فِي وَسَطِ مَجرَى نَهرِ الأُردُنِّ في نفس المكان الذي كان يقف فيه الأحبار حاملين تابوت العهد. وكومة الحجارة هذه مازالت موجودة في وسط نهر الأردن إلى يومنا هذا. وبعد ما عبر كل بني إسرائيل نهر الأردن، قال الله ليشوع بن نون: «يا يشوع، الآن تأمر الأحبار الذين يحملون تابوت العهد بأن يكملوا عبور النهر للضفة الأخرى». فقال يشوع بن نون: «يا أحبار بني إسرائيل، تحركوا من وسط النهر واكملوا العبور». وحين عبر الأحبار النهر ووضعوا أقدامهم على الضفة الأخرى، عادت مياه النهر للجريان. في هذا اليوم عظم الله قدر يشوع بن نون أمام كل بني إسرائيل. فعظم بني إسرائيل قدر يشوع بن نون طوال حياته كما كانوا يعظمون قدر موسَى.

واليوم الذي عبر فيه بني إسرائيل نهر الأردن كان اليومِ العاشرِ مِن الشهرِ الأولِ في السنة الأولى بعد أربعين سنة قضوها تائهين في الصحراء. في ذلك اليوم خَيم بني إسرائيل في منطقة الجلجالِ بالقرب من أريحا. وبعد ما خيم بني إسرائيل في منطقة الجلجال، فعل يوشع بن نون كما أمره الله وأخذ الاثنَي عشر حجراً التي كانوا أخذوها من مجرَى نهرِ الأُردن، ووضعوا كومة الحجارة نصبًا تذكاريًا هناك. ثم قال يشوع بن نون لبني إسرائيل: «يا بني إسرائيل، في المستقبل حين يسألكم أولادكم: "يا آبائنا، ما معنىَ وجود هذه الحجارة بيننا؟" فقولوا لهم: "يا أبنائنا: هذه الحجارة تذكار يوم أوقف الله جريان مجرَى نهر الأردن، لنعبر النهر على الأرض الجافة. كما سبق وشق الله البحر الأحمر ليعبر آبائنا." لتعرف كل شعوب الأرض كم هي قوية يد إلهَنا، وحتَى نعبده وحده ونجعل تقواه إلَى الأبد في قلوبنا.»

5

يشوع يختن ذكور الجيل الثاني بعد الخروج من مصر

وحين سمع ملوك الكنعانيينفي غرب نهر الأردن، بأن الله قد أوقف جريان نهر الأردن وجفف المياه حتى يعبر بني إسرائيل، ذابت قلوبهُم وضعفت همتهُم. وحين كان بني إسرائيل في منطقة الجلجال، حيث نصب يوشع بن نون الكومة التي فيها اثنَي عشرَ حجرًا، اوحَى الله إليه وقال: «يا يشوع، أصنع سكاكينَ مِن حجرِ الصُّوانِ، واختن بها كل الذكور الذين ولدوا في الصحراء من بني إسرائيل.» ففعل يشوع بن نون كما أمره الله، وختن كل الذكور في بني إسرائيل، لأن ذكور بني إسرائيل المولودين في الصحراء لم يكونوا اختتنوا خلال الأربعين سنة التي قضوها في الصحراء تائهين. وهكذا أقام الله الجيل الثاني من الأبناء الذين ولدوا في الصحراء بدلاً من آبائهم الذين عصوا الله فحَرم عليهم دخول أرض كنعان، ولم يبقَى منهم أحد غير كالب بن يفنة ويشوع بن نون. وبعد أن أنتهى يشوع من ختان كل ذكور بني إسرائيل، بقوا في المخيم حتى برِئَت جراحَهم بعد الختان.

عيد الفصح الأول في أرضِ الوعد

ثم أوحَى الله ليشوع بن نون: «اليوم قد أَزَلت عنكم عار العبودية التي عَيرَكم بها فرعون المصريين.» فسُمِّيَ ذلك المكان "الجلجال" ومعناه دحرجة أو إزالة. وبعد مرور أربعة أيام على عبور بني إسرائيل نهر الأردن، وفي اليوم الرابع عشر من الشهر، أقام بني إسرائيل في وادي أريحا أول عيد فصح لهم بعد خروجهم من مصر. وفي اليوم التالي لعيد الفصح جمع بني إسرائيل طعامهم من حصاد أرض كنعان. فأكلوا الغلة مشوية وصنعوا فطيراً من الشعير. ومنذ ذلك اليوم أنقطع المَن الذي كان ينزل عليهم، ومن تلك السنة وهم يأكلون من حصاد أرض كنعان. وفي مرة حين كان يشوع بن نون بالقرب من أريحا، رفع نظره فَرَأىَ رجلاً واقفاً وسيفه في يدهِ. فتقدم يشوع ناحيته وقال له: «هل أنتَ منّا أم علينا؟» فقال له الرجل: «لست منكم ولا عليكم، بل أنا قائد جند الله.» فانحنى يشوع على الأرض أمامه، وقال له: «يا سيدي، ما الذي تأمرني به لأفعله الآن؟» فَقال قائد جند الله: «يا يشوعَ، اخلَع نعليكَ من قدميكَ لأن المَوضع الذي تقفُ عليهِ مُقدسٌ.» ففعل يشوع بن نون كما قال له قائد جند الله.

6

إنهيار أسوار مدينة أريحا

وكانت مدينة أريحا محاطة بسور حصين ولها بوابات أقفلوها بإحكام، فلم يكن أحدٌ يدخلُ إليها أو يخرجُ مِنها. فأوحَى الله ليشوع بن نون وقال له: «يا يشوع، ها أنا أُخضع لك أريحا وأنصرك على مَلكِها وجيشها. فتأمر كل الرجال المحاربين من بني إسرائيل وتقول لهم: "طوفوا حول أسوار المدينة مرةً واحدةً في اليومٍ ولمدة ستةِ أيامٍ. وبينما أنتم تطوفون سيحمل الأحبار تابوت العهد، وأمامه يمشي سبعة من أحبار بني إسرائيل، وكل واحد منهم يحمل بوقًا مصنوع من قرون الكباش. وفي اليومِ السابعِ تطوفونَ حولَ المدينةِ سبعَ مَراتٍ، والأحبار ينفخون في الأبواقِ. وفي اليوم السابع، حين تسمعون نفخة طويلة في الأبواق، تهتفوا جميعًا هتافًا مدويًا، فينهار سور المدينة في مكانه، فتتقدموا ويدخل كل واحدٍ منكم إلي وجهته مباشرةً"».

سقوطُ أريحا

ففعل يشوع بن نون كما أمره الله. فطاف الرجال المحاربين من بني إسرائيل حول مدينة أريحا مرة واحدة في اليوم ولمدة ستة أيام. لكن في فجر اليومِ السابع، طاف الرجال المحاربين من بني إسرائيل حول المدينةِ سبع مراتٍ، والأحبار ينفخون في الأبواق في كل مرة يطوفون فيها حول المدينة. ولما نفخ الأحبار في الأبواق للمرة السابعة، قال يشوع بن نون: «أصرخوا عليهم يا بني إسرائيل، فإن الله قد فتح لكم المدينة. فأدخلوا عليهم وأهزموهم ودمروا كل ما في المدينة. لكن رحاب صاحبة بيت الضيافة التي ساعدت رجالنا، فاحفظوا حياتها هي وكل من كان معها.» ففعل الأحبار كما أمرهم يشوع ونفخوا في الأبواق، وصرخ الرجال المحاربين من بني إسرائيل بصوت مدوٍ، فسقط سور المدينة مكانه، فاندفع الرجال المحاربين من بني إسرائيل واقتحموا المدينة واستولوا عليها. ثم أحرقوا المدينةَ وكل ما فيها، لكنَّ الذهبَ والفضةَ والنحاس فوضعوها في بيتِ مال اللهِ، كما قال لهم يشوع بن نون. أما رحاب صاحبة بيت الضيافة فحفظوا حياتها وحياة كل من كان معها. وبعد أن دمر بني إسرائيل المدينة، حذرهم يشوع وقال لهم: «يا بني إسرائيل، سيموت كل أولاد مَن يعيد بناءَ مدينة أريحا». وتحققت هذه النبوءة في زمن الملك آهاب. وكان الله مع يشوع بن نون، وذاعت شهرته في الأرض كلها.

7

سرقة مال الله تتسبب في هزيمة بني إسرائيل

وبعد أن أستولىَ بني إسرائيل على مدينة أريحا ودمروها، أرسل يشوع بن نون بعض رجالِه ليستطلعوا مدينةِ عاي القريبةِ مِن أريحا. فذهب الرجال الذين أرسلهم يشوع واستطلعوا مدينة عاي، ثم رجعوا إلى يشوع وقالوا: «يا يشوع، إن سكان المدينة قليلون، فلا داعي لإرسال كل قواتنا لمحاربتهم، فألفانِ أو ثلاثةُ آلافِ رجلٍ منا يكفون لهزيمتهم.» فأرسل يشوع بن نون حوالي ثلاثة ألاف رجل ليهاجموا مدينة عاي. لكن رجال مدينة عاي تصدوا لهم وهزموهم. فجزع بني إسرائيل وذابت قلوبُهم. فمزق يشوع بن نون وشيوخ بني إسرائيل ثيابهِم، ووضعوا التراب على رؤسهِم تعبيراً عن حسرتهم، وظلوا ساجدين حتى المساء أمام تابوت العهد المقدس. فدعى يشوع بن نون وقال: «يا ربي وإلهي، هل عبرت بنا نهر الأردن وجئت بنا إلى هنا ليقضي الكنعانيين علينا؟ ليتنا ما عبرنا النهر وفي شرق الأردن بقينا! يا ربي وإلهي، ماذا عساي أقول بعدما أنكسر بني إسرائيل وهزمنا أعدائنا؟ فحين يسمعُ الكنعانيونَ بما حدث لنا ويعرفون أنك لا تحمينا، سيُحيطون بنا ويمحون ذكرنا.» فقالَ الله: «قُم يا يشوع! لا تنحني وارفع رأسك. يا يشوع، قد قلت لكم أن كل ما في أريحا محرم عليكم، لكن بني إسرائيل أخذوا مما حرمت لأنفسهم، فكذبوا وسرقوا وخبأوا ما سرقوه في أمتعتهم. لهذا أنهزم بني إسرائيل وفروا من أمامِ عدوهم، لأنهم أرتكبوا ما حرمته عليهم. فلن أكون معكم حتى تفعلوا كما أمرتكم. يا يشوع بلغ بني إسرائيل: يا بني إسرائيل، في الغد ستقفون في حضرة الله فطهروا أنفسكم، والله يقول لكم: يا بني إسرائيل، لقد سرقتم مما حرمت عليكم، ولن تثبتوا أمام أعدائكم، حتَى تُزيلوا الحرام من بينِكم. غدًا في الصباح، تقفون كلكم في حضرة الله بحسب قبائلكم. والله سيحدد القبيلة والعشيرة والعائلة حتى يكشف الرجل الذي سرق مما حرم الله عليكم. والشخص الذي سيكشف الله انه سرق من الحرام، يحرق بالنار هو وكل أملاكه. لأنه عصى الله وأرتكب كبيرة من الكبائر جلبت العار على بني إسرائيل.» فقام يشوع بن نون في الصباحِ مُبكراً، وقدمَ كل بَني إسرائيل بحسبِ قبائلهم. فحدد الله قبيلة يهوذا، ومن قبيلة يهوذا حدد عشيرة زارح، ومن عشيرة زارح حدد عائلة زبدي، ومن عائلة زبدي حدد رجل أسمه عكان. فقال يشوع بن نون لعكان: «يا بني، قد أظهر الله أنك المذنب. فمَجد الله رب إسرائيل واعترف بما فعلت ولا تخفي شيئًا عني.» فقال عَكانُ ليشوعَ بن نون: «يا سيدي، أنا مَن أرتكب ما حرم اللهِ، وهَكذا سولت لي نفسي. فحين هزمنا مدينة أريحا رأيتُ وَسطَ الغنائِمِ ثوباً بابلياً فاخراً ومئتَي قطعة مِن الفضةِ، وخمسين قطعة ذهب، فاشتهتها نفسي، فأخذتُها وحفرت حفرة ودفنت ما سرقت تحت أرض خَيمتي.» فأرسلَ يشوعُ رجاله فاسرعوا إلَى خيمة عكان، فوجدوا المسروقات مُخبأةً تحت الأرض في خيمته. فَجائوا بالمسروقات ليشوع بن نون ووضعوها في حضرةِ اللهِ أمام كلِّ بني إسرائيلَ. وقال يشوعُ بن نون: «يا عكان، لماذا جلبت علينا هذا البلاء؟ فإن عذاب الله سينزل اليوم عليك». فرجمه بني إسرائيل بالحجارة هو وأهل بيته وأحرقوهم بالنار، وسموا ذلكَ المكانُ وادي عكورَ (ومعنَى الأسم: البلاء). فهَدَأ غضبُ اللهِ وعفا عن بني إسرائيل.

8

يشوع بن نون يهاجم مدينة عاي

وبعد ما عاقب يشوع بن نون الرجل الذي سرق من مال الله، فتسببت خطيئته في هزيمة بني إسرائيل أمام أهل عاي. قال الله ليشوع بن نون: «يا يشوع، أثبت ولا تجزع من هزيمتكم أمام أهل عاي. أمر جزء من جيشك بأن ينصبوا كمين على الجانب الآخر وراء المدينة. وخذ رجالك المحاربين وهاجم عاي مرة أخرَى، فأني أسلمت ملك عاي وشعبه وأرضه ليدك. وستهزم مدينة عاي وملكها كما هزمت مدينة أريحا وملكها، ولكن الغنائم التي ستنالوها هذه المرة أحتفظوا بها لأنفسكم». وفي نفس الليلة أمر يشوع كل جيش بني إسرائيل بالاستعداد للحرب. واختار منهم ثلاثين ألف رجل من أفضل المحاربين، وقبل أن يرسلهم أمرهم وقال لهم: «أسمعوا، الليلة تذهبوا إلى مدينة عاي، وانصبوا خلف المدينة كمينًا ولا تبتعدوا عنها كثيرًا، تيقظوا وكونوا مستعدين. أما أنا وبقية الجيش فسنهاجم المدينة. وحينَ يخرجون علينا سننسحب من أمامهم، فيظنوا أننا نهرب منهم فيطارودنا كما فعلوا أول مرة. وحين يطاردونا ويبتعدوا عن المدينة، تخرجوا أنتم من مكمنِكُم وتدخلوا المدينة وتحرقوها، والله سيكون معكم وينصركم.» فذهبوا إلَى مكانِ ما أمرَهم يشوع، ونصبوا كمينًا في الغرب من المدينة بين عايَ وبيتِ إيلَ وانتظروا هناك. أمّا يشوعُ فقضَى تلك الليلة في المُخيم مع بقية الجيشِ. وفي فجر اليوم التالي، هاجم يشوع بن نون مع جيش بني إسرائيل مدينة عاي. وحين رآىَ ملك عاي جيش بني إسرائيل، خرج مسرعًا ومعه كل الرجال من المدينة وحاربهم وهو لا يدرك أن هناك كمينًا يترصد بهم. فتظاهر يشوع بالانهزام أمامهم، فهرب بالجيش ناحية البرية ليستدرجهم. فطارد ملك عاي ومعه كل رجال المدينة جيش بني إسرائيل. ولم يتبقىَ رجل واحد في مدينة عاي وتركوا المدينة مفتوحة ورائهم. فقال الله ليشوع بن نون: «يا يشوع، أرفع يدك بسيفك نحو المدينة فأنا أعطيتها لك.» وحين رفع يشوع يده بالسيف نحو المدينة، خرج رجال جيشه من الكمين ودخلوا المدينة واستولوا عليها واحرقوها. وحين رأى رجال عاي الدخانَ يصعدُ نحو السماءِ مِن مدينتهم، خافوا وخارت قوتهم. ولم يكن هناك في أيِّ اتجاهٍ مَهْرَبٌ لهم، لأن جيش يشوع الذي كان يفر أمامهم أستدار وهجم عليهم. كما أن جيش يشوع الذين دخلوا المدينة واحرقوها هجموا عليهم، فأصبح رجال عاي محاصرين بين الجيشين. فهزمهم بني إسرائيل وقتلوهم كلهم وأسروا ملكهم. وابقَى يشوع بن نون يدهُ مرفوعةً بالسيف ناحية المدينة حتَى تم القضاء على كل سكان مدينة عاي. فكان عدد من هلك من الرجال والنساء اثني عشر ألفاً. واخذ بنو إسرائيل البهائم والغنائم من الممتلكات لأنفسهم كما أمر الله يشوع بن نون. ثم أمر يشوع بن نون بقتل ملك المدينة، فشنقوه على شجرةٍ وأبقوه معلقًا عليها. وعند غروب الشمس انزلوه والقوا بجثته عند بوابة المدينة وردموا عليها كومةً كبيرة من الحجارة باقية حتى اليوم.

يشوع يقرأ شريعة موسَى على بني إسرائيل

وبعد فترة حين وصل بني إسرائيل إلى جبل عيبال، أمر يشوع بن نون بعض رجاله وقال لهم: «يا بني إسرائيل، أبنوا مكانًا لتقديم الآضاحي لله، وتبنوه بحجارةٍ كاملة وليست مقطوعة بحديد، بحسب ما هوَ مكتوب فِي شريعة موسَى». وبعد ما أتم بني إسرائيل بناء المكان لتقديم الآضاحي لله، قدم عليه يشوع بن نون ذبائح شكر لله على سلامتهم. ثم نحت يشوع على تلك الحجارة نسخة من شريعة موسَى، وقرئها عليهم كما أوصَى موسَى في حضور كل بني إسرائيل.

9

حيلة / خدعة أهل مدينة جبعون الكنعانيين لعقد معاهدة مع بني إسرائيل

ولما سمع الملوك الكنعانيين في منطقة غرب الأردن وعلى ساحل البحر الأبيض بالإنتصارات التي حققها يشوع، تحالف أدوني صادق ملك مدينة أورشليم القدس مع أربعة ملوك آخرين وقرروا أن يهاجموا بني إسرائيل. وكانت مدينة جبعون القريبة من مدينة عاي مدينة عظيمة ورجالها أشداء، لكنهم لم يتحالفوا مع الملوك الكنعانيين. فقد كانوا يعرفون أن شريعة بني إسرائيل تأمر بتدمير مدن كنعان وقتل أهلها، أما المدن البعيدة فيمكن لبني إسرائيل أن يعقدوا معها معاهدة ويستعبدوا أهلها. فلما وصلت لأهل جبعون أخبار إنتصارات بني إسرائيل على مدن أريحا وعاي، خافوا من بني إسرائيل. فقرروا أن يستخدموا الحيلة، فيتظاهر مجموعة من رجالهم بأنهم جاءوا من أرض بعيدة وليسوا من الكنعانيين. فلبسوا ثيابًا بالية وحملوا حميرهم بأكياس قديمة ووضعوا فيها قرب خمر مشققة عتيقة وخبز يابس قديم. ثم ذهبوا إلى مخيم بني إسرائيل في منطقة الجلجال ليقابلوا يشوع بن نون، وقالوا له: «يا سيدنا، جئنا من بلاد بعيدة، ونريد أن نعقد معكم معاهدة». فقال لهم بني إسرائيل: «لكن ربما تكونوا من أهل بلاد الكنعانيين التي حولنا. فكيف يمكن أن نعقد معكم معاهدة؟» فقال رجال جبعون ليشوع: «يا سيدنا، سنكون عبيدًا لك إن عقدت معنا معاهدة». فقال لهم يشوع: «من أنتم ومن أين جئتم؟» فقالوا ليشوع: «نحن عبيدك، لسنا كنعانيين وبلادنا بعيدة عن هنا. وقد جئنا بعد أن سمعنا عن قدرة إلهكم وعن كل ما فعله في مصر، وكيف أخرجكم من مصر وجاء بكم إلى هنا. كما سمعنا كيف أهلك إلهكم ملوك العموريين على الجانب الآخر من نهر الأردن. فقال لنا شيوخنا وكل أهل بلادنا أن نقابلك لنقول لك أننا عبيد لك كلنا. وأننا نريد أن نعقد معكم معاهدة. أنظر يا سيدنا، هذا هو خبزنا وقد يبس وتعفن في الطريق بعد أن خرجنا به ساخنًا من ديارنا. انظر كيف تشققت قرب الخمر التي كانت جديدة حين ملأناها. وها هي وقد بليت ثيابنا وتقطعت من طول الطريق نعالنا». فأكل بني إسرائيل من طعامهم، لكنهم لم يستخيروا الله في عقد معاهدة معهم. فعقد يشوع بن نون وشيوخ بني إسرائيل معاهدة مع رجال مدينة جبعون، ووعدوهم بأن يحفظوا حياة أهل بلادهم. وبعد ثلاثة أيام من عقد بني إسرائيل المعاهدة مع رجال جبعون، رحل بني إسرائيل من منطقة الجلجال، ووصلوا بالقرب من مدن جبعون وما حولها. وهناك عرفوا أن هؤلاء الرجال من الكنعانيين الساكنين في تلك المدن. فلم يستطع بني إسرائيل أن يقتلوهم لأن شيوخ بني إسرائيل كانوا قد أقسموا لهم بالله أن يحفظوا حياتهم. ولما أصر بعض من بني إسرائيل على قتلهم، قال لهم شيوخهم: «يا بني إسرائيل، لقد أقسمنا لهم بالله أن نحفظ حياتهم. فكيف يمكننا الآن أن نقتلهم؟ لو خالفنا قسمنا، سيغضب الله علينا. فدعوهم يقطعوا الأخشاب ويجلبوا لنا الماء، ويكونوا عبيدًا لدينا». فاستدعَى يشوع بن نون شيوخ مدينة جبعون وقال لهم: «إن كنتم من الكنعانيين الساكنيين بالقرب مننا. فلماذا خدعتمونا وادعيتم أنكم من سكان البلاد البعيدة عنا؟ فمن الآن عقاب الله يحل عليكم، فيكون منكم دومًا عبيدًا يخدمون في المكان الذي يختاره الله ويقطعون الأخشاب ويجلبون الماء لنا». فقال شيوخ مدينة جبعون ليوشع بن نون: «يا سيدنا، عرفنا أن إلهكم قد قال لعبده موسَى أن يقتل كل سكان أرض كنعان وأن بني إسرائيل سيأخذوا أرضنا. فخفنا من أن تقتلونا وقررنا أن نعقد معاهدة معكم نحفظ بها حياتنا. وقد رضينا بأن نكون عبيدًا لديكم. فيا سيدنا، ها نحن الآن بين يديك، وراضيين بما ستفعله معنا». فتقبل يشوع بن نون كلامهم ولم يقتلهم. ومنذ ذلك اليوم وهم عبيدًا يقطعون الأخشاب ويجلبون الماء ويخدمون في المكان الذي يختاره الله.

10

الله يوقف الشمس والقمر ليشوع بن نون

وحين عرف الملك الكنعاني أدوني صادق ملك مدينة أورشليم القدس أن أهل جبعون عقدوا معاهدة سلام مع بني إسرائيل، فزع وأرسل برسالة إلى أربعة من حلفائه ملوك المدن القريبة من القدس، وقال لهم: «أهل مدينة جبعون قد عقدوا معاهدة سلام مع قائد بني إسرائيل يشوع بن نون، فتعالوا لتساعدوني في الهجوم على مدينة جبعون». فتحالف الملوك الكنعانيين الخمسة وجمعوا كل جيوشهم، ثم مشوا وحاصروا مدينة جبعون وهجموا عليها. فأرسل أهل مدينة جبعون رسالة ليشوع بن نون حيث يقيم في منطقة الجلجال، وقالوا له: «يا سيدنا يشوع، نرجوك أن تأتي لتنجدنا. فقد تحالف ضدنا ملوك الكنعانيين وحاصرونا وهجموا علينا. نحن عبيدك فاسرع إلينا ولا تتخلى عنا». فاستخار يشوع بن نون الله. فقال له الله: « يا يشوع، لا تخشاهم، فأني إلى يدك اسلمتهم، ولن يجروء على مواجهتك أحد منهم». فاسرع يشوع بن نون وجمع أفضل رجاله المحاربين في جيش بني إسرائيل، ومشوا طوال الليل من منطقة الجلجال، ثم قام يشوع بهجوم مفاجئ على ملوك الكنعانيين عند مدينة جبعون. فأنزل الله الرعب في قلوبهم، فارتبكوا. كما أنزل الله عليهم كرات متجمدة كبيرة من برد السماء. فكان الذين هلكوا بسبب البرد الذي أنزله الله السماء أكثر من الذين قتلهم يشوع بحد السيف. فطاردهم يشوع بن نون ورجاله، فهربوا مشتتين في كل إتجاه. وبينما كان ملوك الكنعانيون يهربون، دعَى يشوع بن نون الله وقال: « يا ربنا، نسألك أن توقف الشمس فوق جبعون، وتوقف القمر على وادي عجلون». فأوقف الله الشمس والقمر طوال اليوم، حتىَ أنتصر يشوع بن نون وبني إسرائيل على الملوك الكنعانيين. ولم يحدث بعدها أن أوقف الله الشمس والقمر لإنسان كما فعل مع يشوع بن نون، لأن في ذلك اليوم حارب الله عن بني إسرائيل. وبعد أن أنتصر يشوع وبني إسرائيل على ملوك الكنعانيين وأنقذوا أهل جبعون، رجعوا إلى منطقة الجلجال.

11

يشوع بن نون يستولي على كل أرض الكنعانيين

ولما سمع يابين ملك منطقة الجليل بالإنتصارات التي حققها يشوع بن نون وبني إسرائيل، تحالف مع الملوك الكنعانيين في الشمال، وجمعوا جيوشًا كبيرة مثل رمل البحر ومعهم مركبات الخيول والفرسان. وخيموا عند بحيرة الجليل ليهاجموا بني إسرائيل. فقال الله ليشوع: «يا يشوع، لا تخشاهم. غدًا في مثل هذا الوقت سأسلمهم إلى يدك، فتضرب أعقاب خيولهم وتحرق بالنار مركباتهم». فجمع يشوع بن نون جيشه ومشوا إلى مخيهم وهجم عليهم وضرب أعقاب خيولهم وأحرق مركباتهم كما قال له الله. ولم يترك أحد إلا وقتله من جيوش الكنعانيين. واستولى يشوع بن نون على كل مدن الكنعانيين ومواشيهم، ثم وزع أراضيهم على أسباط بني إسرائيل. ولم يعقد يشوع بن نون معاهدة سلام مع أحد من الكنعانيين إلا أهل مدينة جبعون. وهكذا نفذ يشوع بن نون كل ما أمر الله به موسى.

23

وصية يشوع بن نون لبني إسرائيل

وبعد ما أستولى يشوع بن نون على مدن وأراضي الكنعانيين ووزعها على بني إسرائيل، جعل الله بني إسرائيل يعيشون مدة طويلة في سلام مع الكنعانيين الذين يعيشون حولهم. وعاش يشوع بن نون بين بني إسرائيل حتى شاخ وبلغ من العمر مائة وعشر سنين. وفي يوم جمع يشوع بن نون كل بني إسرائيل مع شيوخهم وقادتهم وقال لهم: «يا بني إسرائيل، ها أنا وقد شخت وتقدم بي العمر. ولقد شهدتم كيف ساعدكم الله وحارب عنكم لتهزموا الكنعانيين أمم هذه الأرض كما وعدكم. يا بني إسرائيل، أنا كنت قد قسمت أراضي الكنعانيين عليكم بحسب قبائلكم ووزعت عليكم أراضي الأمم التي هزمتها. لكن بعض من أمم الكنعانيين ما زالت باقية حولكم وعليكم أن تهزموهم وتأخذوا أرضهم. فحين تهاجمونهم سيجعلهم الله يهربون من أمامكم حتى وإن كانت أممًا أقوى منكم، ولن يقدر أحد منهم أن يقاومكم. فيكون الواحد منكم قادر على أن يهزم ألفًا من جنود أعدائكم، لأن الله سيحارب عنكم كما وعدكم. يا بني إسرائيل، يجب عليكم أن تتمسكوا بمحبة الله وطاعة كل ما هو مكتوب في شريعة موسَى وأن تعملوا بها ولا تحيدوا عنها. فلا تعبدوا آلهه الأمم التي حولكم ولا تسجدوا لأصنامهم ولا تقسموا بسم إلهتهم. وتمسكوا بالوفاء للرب إلهكم كما دومًا فعلتم. يا بني إسرائيل، لا تعصوا ما أمركم به إلهكم، فلا تتزوجوا من الكنعانيين، ولا تصادقوهم ولا حتىَ تختلطوا بهم. وها أنا أقول لكم، أنكم إن اختلطتم بهم وتزوجتم منهم، فإن الله لن يطردهم من أمامكم. وسيكونوا فخًا لأقدامكم، وسوطًا على ظهوركم، وشوكًا في عيونكم، حتى لا يتبقى أحد منكم في هذه الأرض الطيبة التي أعطاها الله لكم. يا بني إسرائيل، قريبًا سينقضي أجلي كما خلت سنة الله في الخلق من قبلي. وأنتم تعلمون باليقين ومن قلوبكم أن الله قد وفى بكل ما وعدكم، ولم يخلف وعدًا واحدًا معكم. لكن الله قد أنذركم، وسيعاقبكم إن عصيتم، وسيأتي يوم فيه يفنيكم من الأرض التي وهبها لكم. فاعبدوا إلهكم وحده، واحفظوا عهده معكم طوال حياتكم.

24

الوصية الأخيرة ليشوع بن نون

وبعد أن بلغ يشوع بن نون وصيته لبني إسرائيل ووزع عليهم أراضي كنعان، جمع كل بني إسرائيل مع شيوخهم وقادتهم في منطقة شكيم (أو مدينة نابلس الآن)، واوقفهم في حضرة الله عند خيمة العبادة المقدسة. ثم قال يشوع بن نون لكل الشعب: «يا بني إسرائيل، هذا ما يقوله الله لكم: "منذ زمن طويل كان أجدادكم تارح وأبناه ناحور وإبراهيم يعيشون في بلاد ما بين النهرين ويعبدون آلهة تلك البلاد. فأخرجت جدكم إبراهيم من بلاد ما بين النهرين وجئت به إلى أرض الكنعانيين. ووعدته بأن أكثر نسله ثم وهبته إسحاق. ورزقت إسحاق بولدين يعقوب وعيسو، فوهبت لعيسو منطقة جبل سعير جنوب البحر الميت. أما جدكم يعقوب وأبنائه فنزلوا إلى مصر. وفي مصر، أرسلت فيهم موسَى وهارون، وأنزلت البلاء على فرعون. وحين أخرجت أجدادكم من أرض مصر، طاردهم جيش فرعون بمركبات وفرسان. وحين وصلوا عند ساحل البحر الأحمر ورأوا جيش فرعون ورائهم، خافوا واستغاثوا بي لأنقذهم. فأنزلت على جنود فرعون سحابه من ظلام حالك فلم يقدروا أن يقتربوا من بني إسرائيل. ثم شققت البحر الأحمر فعبر أجدادكم، لكن حين حاول جيش فرعون أن يعبر ورائهم، أطبقت عليهم مياه البحر فغطتهم، وأجدادكم شهدوا هذا بأعينهم. ثم قضَى بني إسرائيل في الصحراء مدة طويلة من الزمان. ثم جئت بكم إلى الأرض التي في شرق نهر الأردن. وحين أهل البلاد حاربوكم، أسلمتهم إلى يدكم وأعطيتكم أرضهم. وحين قرر الملك بالاق الكنعاني أن يحاربكم، وأرسل ليستدعي بلعام الكاهن ليدعي باللعنة عليكم، أنقذتكم وجعلته يبارككم بدلاً من أن يلعنكم. ثم عبرتم نهر الأردن وجئتم إلى مدينة أريحا، فحاربكم أهل أريحا وأمم الكنعانيين الأخرى، لكني أسلمتهم كلهم إلى أيديكم. فهرب أعدائكم من أمامكم، لكنهم لم يهربوا منكم بسبب سيفكم ولا قوسكم. فأنا الذي أنزلت الرعب في قلوبهم فهربوا من أمامكم. وأنا أيضًا الذي وهبت لكم ارضًا لم تتعبوا فيها ومدنًا لم تبنوها، وجعلتكم تأكلوا كرومًا وزيتونًا من أشجارًا لم تزرعوها." فيا بني إسرائيل، هكذا قال الله. فأخشوا ربكم واعبدوه وحده من كل قلوبكم، وتخلصوا من الأوثان التي كان يعبدها أجدادكم في بلاد ما بين النهرين وفي أرض المصريين. وإن لم ترضوا بطاعة الله، يمكنكم أن تختاروا إلهًا من الألهة التي عبدها أجدادكم، أو أن تعبدوا آلهة الكنعانيين الذين يعيشون حولكم. أما أنا وأهل بيتي فنعبد الله وحده». فقال بني إسرائيل: «لا يا سيدنا. لن نعبد آلهة أخرى، وسنتمسك بعبادة الله إلهنا. فالله إلهنا هو الذي خلصنا من العبودية نحن وآبائنا، ومن أرض مصر أخرجنا. وهو الذي صنع معجزات عظيمة أمام أعيننا وهدانا في كل طرقنا، وحفظنا من كل الأمم التي حولنا. وحين خرج الكنعانيين سكان هذه الأرض ليحاربونا، طردهم إلهنا وجعلهم يهربون من أمامنا. فنحن أيضًا لا نعبد إلا الله وحده». فقال لهم يشوع بن نون: «يا بني إسرائيل، لا تتعجلوا وتقولوا سنعبد الله وحده، فلا طاقة لكم أن تعبدوا الله حق عبادته. فالله عزيز قدوس لا يرضَى بأن تشركوا به ألهة أخرى. إن تمردتم أو عصيتم فلن تفلتوا من حسابه على خطيئتكم. وإن أدرتم ظهوركم لله وعبدتم آلهة الأمم التي حولكم، سيغضب الله عليكم ويبتليكم ويفنيكم، بالرغم من أنه حتى الآن يبارككم ويُحسن إليكم». فقال بني إسرائيل: «لا يا سيدنا. لا نعبد آلهة أخرى، بل نعبد الله وحده». فقال لهم يشوع: «يا بني إسرائيل، أذن قد أخترتم أن تعبدوا الله وحده. فهل أنتم شهود اليوم على أنفسكم؟» فقال بني إسرائيل: «نعم يا سيدنا، نحن شهود على أنفسنا». فقال لهم يشوع: «لكن لا تزال لديكم أوثان مثل الأمم الأخرى، فتخلصوا الآن منها. يجب عليكم أن تعبدوا االله وحده من كل قلوبكم». فقال بني إسرائيل: «الله هو إلهنا، وسنعبد الله وحده». وهكذا، في هذا اليوم أتم بني إسرائيل عهدهم مع الله. وأعطَى يشوع بن نون وصايا وشرائع لبني إسرائيل. وكتب هذا العهد في كتاب الشريعة، ونصب حجرًا كبيرًا للذكرَى عند خيمة العبادة المقدسة في مدينة شكيم (أو مدينة نابلس الآن). ثم قال يشوع بن نون لكل الشعب: «يا بني إسرائيل، هذا الحجر الذي نصبته شهد كل ما قاله الله لكم، فإن تمردتم على الله سيكون هذا الحجر شاهدًا عليكم». وبعد هذا العهد، أمر يشوع بن نون بني إسرائيل بأن يرجعوا إلى أرضهم.

وفاة يشوع بن نون خليفة موسَى

وكان بني إسرائيل حين خرجوا من مصر قد أخذوا عظام النبي يوسف معهم، ودفنوها في القبر الذي كان أشتراه النبي يعقوب من حمور كبير مدينة شكيم بمائة قطعة من الفضة، وهي المنطقة التي أصبحت من نصيب قبيلة يوسف. وتوفى الله إلعازر بن هارون، فدفنوه في أرض قبيلة أفرايم. وبعد فترة، توفَى الله يشوع بن نون خليفة موسَى، وقد بلغ من العمر مائة وعشر سنين. فدفنوه في منطقة قبيلته في جبل أفرايم. وعبد بني إسرائيل الله وحده في زمان يشوع بن نون، وكذلك في زمن القضاة والشيوخ الذين شهدوا المعجزات التي صنعها الله مع بني إسرائيل.