قصّة النبي يوسف

حلم يوسف

هذه هي قصّة أولاد النبي النبي يعقوب عليه السلام. أقام نبي الله النبي يعقوب في أرض الكنعانين، في نفس الأرض التي عاش أبوه فيها مغتربًا. وكان يوسف شابًا فِي السابِعة عشرة من عمرِه، يساعد في رعي غنم أبيه مع أخوته ، أولاد بلهة وزلفة زوجتي أبيه الآخرتين. وكان يوسف يخبرُ أبيه بكل أفعال أخوته السيئة. وكان يوسف احب إلى أبيه النبي يعقوب من أخوته الآخرين، لأن الله كان قد رزقه به وهو في شيخوختهِ، فصنع النبي النبي يعقوب ليوسف قميصاً ملوناً. ولما رأَى إخوة يوسف أن أباهم يحبه أكثر منهم، كرهوه أكثر وعاملوه بقسوة وقالوا: يوسف وأخوه أحب إِلَى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين. وفي يومٍ رأى يوسف حلماً، حين قصه على أخوته زاد غيظهم منه أكثر. حين قال لهم يوسف: «أسمعوا هَذَا الْحُلْمَ الذي رأيت، أني رأيت في المنام وكَأَنَّنَا نَربط حُزمًا فِي الْحَقْلِ وقت الحصاد، فَإِذَا بِحُزْمَتِي فجأة وَقَفَتْ ثُمَّ انْتَصَبَتْ، فَأَحَاطَتْ بِهَا حُزَمُكُمْ وَسجدتْ كلها لحزمتي». فزاد حقدهم علىَ يوسف بسبب كلامه والحلم الذي حلمه وقالوا ليوسف: «أتظن أنك تملك علينا وتحكمنا؟» ثم رأىَ يوسف حلماً آخر قصه علَى إخوته، وقَالَ: «أسمعوا فقد رأيت حلمًا آخر، إني رأيت أحد عشر كوكبًا والشمسَ والقمر رأيتهم لِي ساجدين». وَحين قَصَّ يوسف عَلَى أَبِيهِ الرؤيا، عاتبه النبي يعقوب وقَالَ: «يا بني أي رؤيا تلك الَّتي رأيت؟ أحقاً سنأتي أنا وأمك وإخوتك ونسجد أمامك؟» فاشتعلت غيرة أخوته منه، أما أبوه فأسرها في نفسه وتفكر في كلام يوسف.

التآمر على حياة يوسف

وفي يومٍ كان إخوة يوسف قد ذهبوا ليرعوا ماشية أبيهم قرب مدينة شكيم في أرض كنعان اومدينة نابلس الآن. فقال النبي يعقوب ليوسف: «يا يوسف. أخوتك يرعون غنمي قُرّب شَكِيمَ، هيا لأرسلك إليهم». فقال يوسف لأبيه: «كما تأمر يا أبي». فقال له النبي يعقوب: «اذْهَبْ وَاطْمَئِنَّ عَلَى إِخْوَتِكَ وَعَلَى الْمواشِي، وارجع لتأتيني بخبرهِم.» فسار يوسف في طريقهِ من وَادِي حَبْرُونَ متوجهاً ناحية شَكِيمَ مدينة الكنعانين. وقرب شكيم أخذ يفتش عن أخوته فالْتَقَاهُ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ: «عَمَّنْ تبحث؟» فَأَجَابَهُ يوسف: «أَبْحَثُ عَنْ إِخْوَتِي. فهل تعرف مكانهم؟» فَأَجَابَهُ الرجل: «قد رحلوا من هنا، وقد سمعتهم يقولون أنهم ذاهبون إلى قرية دوثان». فمشى يوسف في أثرهم حتى عثر عليهم في دوثان شمال مدينة شكيم. وما إن رأوه من بعيد قادم إليهم، تأَمروا على قتله. وَقَالَ بعضهم لبعضٍ: «ها هو صاحب الأحلام المكين. هيا نقتله ونلق به في بئر جاف، وندعِ أن ذئباً أكله، ونرى كيف تتحقق أحلامه.» وَحين سَمِعَ أخوهم البكر رأوبين، أراد أن ينقذ يوسف من يد أخوته الآخرين، ويتحايل ليُخلصه ويرده لأبيه. فَقَالَ لهم: «اسمعوا، لا تقتلوا يوسف، ولا تسفكوا دمه، ((وَالْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ)). فلما جاء يوسف إلَى إخْوته، نزعوا عنه قميصه الملون. وأخذوه وألقوه في بئر جاف.

يوسف يباع لتجار الإسماعليين

ثم جلسوا ليأكلوا، ولم يكن معهم رأوبين. فرأوا قافلة مقبلة من التجار العرب الإِسماعيليين، وجمالهم محملة بالتوابل والصمغ، وهُم في طريقِهم من جلعاد (أو الأردن الآن) إلى مِصْرَ متوجهين. فَقالَ يَهُوذا لإخْوَتِهِ: «ما الفائدة إن نحن قتلنا أخانا وسفكنا دمه ؟ فهو من لحمنا ودمنا، فتَعَالَوْا نَبِيعُهُ إِلَى التجار الإِسْمَاعِيلِيِّينَ». فوافق على رأيهِ أخوته الآخرين. وَعِنْدَمَا أقتربت قافلة التجار الإسماعليينَ، سَحَبُوا يُوسُفَ مِنَ الْبِئْرِ وَبَاعُوهُ بِعِشْرِينَ قِطْعَةً مِنَ الْفِضَّةِ، فَحَمَلُهُ التجار الإسماعليينَ معهم إِلَى أرض المِصْرَيين. وحين رجع رَأُوبَيْنُ ليُخلص يوسف من البئر لم يجده، فشق ثيابه وهو مكروب حزين. فرجع إلى أخوته وقال: «الْوَلَدُ لَيْسَ مَوْجُوداً في البئر! ماذا أفعل الآن وإلى إين أذهب؟» فأخذوا قميص يوسف الملون، وذبحوا جدياً وغمسوا القميص في الدم. فأخذوا القميص المُلطخ بالدماء إلى أبيهم وقالوا:«يا آبابنا، وَجَدْنا هَذا. فتحقق إن كان هذا قميص أبنك؟» فتَحَقَّقَهُ النبي يعقوب وقالَ: «هذا قميصُ ابني! يا ويلي، الذئب افترس أبني يوسف المسكين». فشق يعقوب ثيابه، وارتدَى ثوب خشن قديم وناح علَى ابنه زمن طويل حتى (ابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ.) وقام جميع أبناء النبي يعقوب ليعزوه، لكنه رفض قبول عزائهم، وَقَالَ: «سأبقَى إلى المَمَات على أبني حزين». وأستمر النبي النبي يعقوب يبكي حسرة على يوسف. وَبَاعَ التجار الإِسْمَاعِيلِيِّينَ يُوسُفَ فِي مِصْرَ لِفُوطِيفَارَ، رَئِيسِ حَرَسِ الفرعون وأحد معاونيه المقربين.

38

يهوذا يتزوج ابنة شوع

وبعدما تخلص إخوة يوسف منه وباعوه للتجار الإسماعيليين، باعه التجار الإسماعيليين في مصر لفوطيفار رئيس حرس الفرعون. بعد ذلك فارق يهوذا ابن النبي يعقوب أخوته وارتحل ليقيم عند صديق له كنعاني يدعَى حيرة كان يعيش في قرية عدلام القريبة من حبرون. وهناك تزوج يهوذا أبنة رجل أسمه شوع من الكنعانيين. فحملت وأنجبت له ابناً سماهُ عيرا. ثمَ حملت مرة أخرى وأنجبت ابناً سمتهُ أونان. ثمَ حملت مرة ثالثة وأنجبت في قرية كزيب القريبة من حبرون ابناً سمته شيلة. وحين كبر عيرا أبن يهوذا البكر زوجه من فتاة تدعَى ثامار. لكن عيرا بكر يهوذا كان يفعل الشر أمام الله، فقضَى الله بموته. فقال يهوذا لأونان أبنه الثاني: «أدخل على زوجة أخيك بحسب عاداتنا وتزوجها، عسَى أن يكون لأخوك نسل منها». وعرف أونان أن النسل لن يُنسَب إليه. فكان يمنع ماءَه عنها، كَي لا يكون لأخيهِ نسلاً منه. فساء فعل أونان أمام الله فَقضى بموته هو أيضًا. فقال يهوذا لثامار أرملة أولاده: «أبقي أرملة في بيت أَبـيك إلى أن يكبر ابني الصغير شيلة وأزوجه لكِ». وكان يهوذا قد وصاها بهذه الوصية، لأنه خاف أن يموت ابنه الصغير كما مات أخوته أيضًا. فمشت ثامار وأقامت في بيت أَبيها.

يهوذا وثامار

ومرت الأيام وماتت بنت شوعٍ زوجَة يهوذا. وبعد العزاء والحداد ذهب يهوذا إلى قرية تِمْنَة القريبة من عدلام، ليُشرف على العمال وهم يجزون صوف غنمه، وكان معه حيرة صاحِبِهِ العدلامي. فأخبروا ثامار بأن حماها قادم في الطريق إلى تِمْنَةَ لِيَجُزَّ صوف غَنَمَهُ. فنزعت عنها ثياب الحداد، وغطت وجهَهَا بحجاب، وجلست عند مدخل قرية عينايم التي علَى طريق تِمْنَة، بعد عرفت أن يهوذا خائف على أبنه ولن يزوجه منها. فلما مر بها يهوذا، ظنها من عاهرات معابد الكنعانيين، لأنَها كانت تُخفيَ وجهَهَا. فلم يتعرف عليها، ومال إلى جانب الطريق نحوها، ثم قال لها: «تعالي أُعاشِرُكِ»، فقالت له: «ماذا تعطيني لكي تعاشرني؟» فقال لها: «سأرسل إليك جَدْيًا من غنمي». فقالت: «هل ستعطيني رهناً إلى أن ترسله؟» فسألها: «أي رهنٍ أعطيك؟» فأجابته: «خاتمك وعصابتك والعصا التي في يدك». فأعطاها يهوذا ما طلبت، فعاشرها، فحملت منه. فقامت ورجعت إلى بيتها وخلعت الحجاب من علىَ وجهَها وارتدت ثياب الحداد. وعندما أرسل يهوذا الجدي مع صاحبه حيرة العدلامي ليسترد الرهن من يد المرأة لم يجدها. فسأل أهل المكان: «أين العاهرة التي كانت تجلس علَى الطريق في عينايم؟» فقالوا: «لا توجد عاهرةٌ هنا». فعاد حيرةَ إلَى يهوذا وقال: «أهل القرية قالوا: لم توجد عاهرة هنا، وأنا بحثت ولم أجد أثر لها». فأجابَ يهوذا: «فلتحتفظ هي أذن بما عندها، فلا أريد أن يسخر الناس مني. وقد بعثت بهذا الجدي كما اتفقت معها لكنكَ بحثت ولم تجدها».

مولد فارص وزارح

وبعدَ مُرور ثلاثةِ أشهرٍ قالوا ليهوذا: «ثامار زوجة أبنائك زَنَتْ، وحَبِلَتْ من زناها». فقال يهوذا: «هاتوها أذن وأحرقوها». وعندما ذهبوا إليها، قالت لهم: : «قولوا ليهوذا أَني حُبْلَى من صاحب هذه الأَشياءِ. تحقق من هذا الخاتم وَالعصابة والعصا لعلك تعرفُ صاحبها!» فتعرف يهوذا على الأشياء التي أرسلت بها، وقال: «هيَ حقاً أَكثر برًا منِّي، فقد أرادت أن تحفظ أسم زوجها حسب الشريعة، وأنا الذي خلفت ما وعدي معها، ولم أزوِجها مِن شيلة ابني.» ولم يعاشرها يهوذا بعدها. وعندما جاء موعد ولادتها كان توأمان في بطنِهَا. وفي أثناء ولادتهَا أخرَجَ أَحَدُهُما يده فربطت القابِلَةُ خيطاً أَحمر حولها، وقالت: «هذا خرج أولاً». إلا أنه سحب يدهُ، فخرج أخوه، فقالت القابلة: «كيف اقتحمتَ على أخيك؟» لذلك سموه فارص. ومعناه المقتحم. وبعد ذلك خرجَ أخوهُ الْمُلفوف على يدهِ الخيط الأحمر فسموه زارح. ومعناه الأحمر. وهذا نسل فَارَصَ حتى النبي داود: فَارَصُ أنجب حَصْرُونَ، وَحَصْرُونُ أنجب رَامَ، وَرَامُ أنجب عَمِّينَادَابَ، وَعَمِّينَادَابُ أنجب نَحْشُونَ، وَنَحْشُونُ أنجب سَلْمُونَ، وَسَلْمُونُ أنجب بُوعَزَ، وَبُوعَزُ أنجب عُوبِيدَ، وَعُوبِيدُ أنجب يَسَّى، وَيَسَّى أنجب دَاوُدَ النبي.

39

يوسف في بيت عزيز مصر

وبعدما باع أولاد يعقوب أخيهم يوسف للتجار الإسماعليين، باعهُ التجار الإسماعليين لفُوطِيفَارَ رئيس حرس الفرعون. فأَقَامَ يُوسُفَ فِي بَيْتِ سَيِّدِهِ الْمِصْرِيِّ، وكان الله في عون يوسف فكان موفقًا في كل أعماله. وَرَأَى مَوْلاَهُ المصري أَنَّ يُوسُفَ مؤيداً من الله وموفقاً في كل أفعاله. فنال يُوسُفَ نعمة في عين مولاه ورضَيَّ عنه، فجعله وكيلاً على بيته وعلى كل ماله. فحلت البركة في بيت فُوطِيفَارَ وفي مالِه وغنمِه وزرعه، منذ ان أقام يوسف واليًا في بيته ووكيلاً على كل أعماله. ومنذ أن كان يوسف أميناً على بيت المصري وكل اعماله، لم يكن فُوطِيفَارَ يهتم بشيئاً من ماله، إلا الطعام الذي يأكله، من شدة ثقته في يوسف وأمانته. وكان يوسف وسيمًا وجميل الهيئة. فوقعت في غرامِه زليخة زَوْجَةُ مَوْلاَهُ وَرَاوَدَتْهُ عَنْ نَفْسِهِ. فَأَبَى وقَالَ لها: «أنت زوجة سيدي، ومَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ، وهُوَذَا سَيِّدِي وقد ائتمنني على بيتِه وكل أعماله. وَلم يجعل أحدًا غيره فِي هَذَا الْبَيْتِ أَعْظم قدرًا مِنِّي، ولم يمنع عني شيء إلا أنتي لأنك زوجته. فكيف لي أن أَرتكب هَذَا الذنب الْعَظِيمَ وَأُخْطِئُ أمام الله في حق سيدي؟» فظلت على الدوام تراوده وتلح عليهِ ويوسف يقاومها. وحدث في ذات مرة، أن دخل يوسف البيت ليقوم بعمله، ولم يكن هناك أحد فِي البيت. فَأمسَكَتْهُ مِنْ ثَوْبِهِ وَقالَتْ: «تَعالَ وَعَاشِرْنِي!» فحاول الهروب منها، فشدتْ قَمِيصَهُ مِنْ الخلف، فَتَرَكَ ثَوْبَهُ فِي يَدِها وَخرجَ هاربًا منها. فَلَمّا رَأتْ أنَّهُ تَرَكَ قميصهُ فِي يَدِها وَهرب منها، نادت أهل بيتها وقالت: «انظروا! العبراني الذي جَاء به زوجي حاول أن يعتدي على شرفي. دخل غرفتي وراودني عَن نفسي، فصَرخت بأعلَى صوتي. وعندمَا صرخت، تَرَكَ قميصه عندي وهرب». واحتفظت بقميصهِ معها إلَى أنْ رجع زوجها إلَى البَيتِ. فقالت له: «انْظُر! هذا هو العبد الْعِبْرَانِيُّ الَّذِي جئت بِهِ إِلَى الْبَيْتِ، حاول أن يعتدي على شرفي. دَخَلَ غُرْفَتِي وَرَاوِدُنِي عَنْ نَفْسِي. وَعِنْدَمَا رَفَعْتُ بالصراخ صَوْتِي، تَرَكَ قميصه وهرب خارجًا من عندي».

يوسف في السجن

فلما سمع فوطيفار كلامها، وما أراد يوسف أن يفعل بها، غضب غضباً شديداً. وأمر بالقبض على يوسف، فأخذوا يوسف وألقوه في السجن حيث كَانَ أَسرَى ٱلملك محبوسين. لكن الله كان مع يوسف ورحمه كما وعد أباءه إسحاق وإبراهيم، فَنَالَ يوسف رِضَى رَئِيسِ السِّجْنِ وعامله بإحسان عظيم. حَتَّى أن رَئِيسِ السِّجْنِ عَهِدَ إِلَى يُوسُفَ بتدبير كُلِّ مَا يَجْرِي هُنَاكَ، وجعله مَسْؤولاً عن الْمَسَاجِينِ. وكان رئيس السجن لا يُراجع يوسف في أي أمر كلفهُ به أبدًا، فقد كان الله مع يوسف دائمًا، وفي كل أعماله كان ناجحًا.

40

النبي يوسف يُفسر أحلام ساقي الفرعون وكبير الخبازين.

وبعد مدة من بقاء يوسف في السجن، حدث أن اساءَ كبير سقاة فرعون ورئيسِ الخبازينَ إلَى سيدهِما، ملك المصريين. فغضب الفرعون على الرجلين: كبير السقاةِ ورئيسِ الخبازينَ. وأمر بحبسهُما في سجنِ رئيسِ الحرَسِ، حيث كانَ يوسف محبوساً مع المسجونين. فوضعهما رئيس الحرس تحت مسئولية يوسف مع بقية المساجين. ثم حدث ذات ليلة أن رأى كل مِنْ ساقِي ملك مصر وخبازهِ حلمًا، لكل واحد منهما تفسير يخص صاحبه في الحلمين. ولما جاء يوسفُ إليهما فِي الصباحِ وجدهما مغمومان. فسألَهما: «مالي أراكما اليوم مُضطَرِبان؟» فأجابه كبير السقاةِ ورئيسِ الخبازينَ: «حَلُم كل منا حُلماً ولا نجد مَن يفسر لنا». فقالَ يوسف: «أخبراني بهما، أليس الله بقادر على تفسير الحلمين؟»

يوسف يفسر حلم ساقي فرعون

فقص كبير السقاة حُلمهُ علَى يوسفَ وقال: «رأيت في حُلمِي أن أَمامي شجرة عنب. فيها ثلاثةُ أغصانٍ ازدهرت، وعناقيدُها نضجت. وكانت كأسُ فرعون في يدي، فأخذت من الْعنبِ وعصرته فِي كأسِ فرعونَ، وناولته الْكأس في يده ممتلئاً». فقالَ لهُ يوسف: «أنا أنبأك بتأويلِهِ: اما الأغصان الثلاثة فهي ثلاثة أيامٍ. بعدَ الثلاثةِ أيام يرضَى عنك فرعونُ، ويردكَ إِلَى سابق منزلتكَ، وستقدم لفرعونَ كاسهُ كما كنت معتاداً أن تفعل. وحين يحدث لك هذا الخير ، ليتك تذكرني عند الفرعون وتتكلم معه عني عساه يخرجني من السجن. لأني لم ارتكب جريمة استحق عليها العقاب، بعد أن أخذوني من أرض كنعان وجاؤوا بي إلى هنا غصبًا عني».

يوسف يفسر حلم خباز فرعون

وَعندمَا رأَى كبير الخبازينَ أن يوسفَ يُحسن تفسير الأحلام، قالَ لَه: «رأيت أنا الآخر أَيضاً حُلماً، رأيت ثلاثَ سلالِ مملوءة بالخبز فوق رَأْسِي . وَكانَ فِي السلة العليا كل الأصناف التي نخبزها للفرعون. لَكِن الطيور كانت تأكل منها وهي فوقَ رأسي.» فَقال لَه يوسف: «أنا أنبأك بِتَأْوِيلِهِ: اما الثلاث سِلاَلٍ فهي ثلاثَة أيَامٍ. بعد ثلاثةِ أَيام يقطع فرعون رأسك ويعلقك علَى خشبةٍ فتأكل الطيور من لحمِك». ووافق اليوم الثالث يوم الإحتفال بميلاد فرعون، فأقام فرعون وليمة لخاصته المقربين. وأخرج كبير السقاة ورئيس الخبازين من السجن في حضورِ المسئولين. ورد فرعون كبير السقاة إلى سابق منزلته، فقَدم الساقي للِفِرْعون الكَأْسَ في يده كَمَا اعتاد أَن يفعل. وأمر الفرعون بإعدام كبير الْخبازين وعلَقه علَى خشبة، مثلما فسر لهما يوسف الحلمين. أما رئيس السقائين ((فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ يوسف فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ)).

41

حلمَ فرعون

بعد مرور سنتين رأى فرعون حلماً. ورأى في الحلمِ أنه واقفًا عند نهر النيل. وإِذا بسَبعِ بقراتٍ سمانٍ صحيحة الأبدان، تخرجُ من النهرِ وترعى في عشب البُستان وبعدها خرجت من النهر سبع بقرات أخرى عجاف سقيمة الأبدان ، ووقفت بجوار البقرات السمان، التي ترعى على الضفةِ في البستان. فالتهمت البقرات العجاف السبع بقرات السمان، ثم صحَى فرعون من نومه. ونام فرعون مرة أخرى فحلمَ حلماً آخر. فرأى فيه سبعَ سنبلاتٍ خضرٍ زاهية، نبتت من غصن واحد. ثم رأى من ورائها سبعَ سنبلاتٍ أُخرَى يابساتٍ، محروقة من حر ريح شرقية قاسية. فأكلت السَبعَ سنبلاتٍ اليابساتٍ السبعَ سنبلاتٍ الخضرٍ الزاهية. ثم أفاق فرعون مستيقظاً وأدرك أن ما رأه كان حُلماً. وفي الصباح كان فرعون مغموماً مضطرباً، فأرسل وأستدعى جميع سحرته وحكمائه، وقص عليهم حلمَهُ فلم يجدوا له تفسير و((قالوا أضغاثُ أحلامٍ وما نحن بتأويلِ الأحلامِ بعالمينَ)).

عندئذ قال رئيس السقاة لفرعون: «اليوم تذكرت أني مذنب، فقد نسيت الشاب الذي كان معنا في السجن منذ سنتين. فحين غضب مولاي الفرعون على عبديه، واُلقيَ بي في سجن رئيس الحرس أنا وكبير الخبازين. في تلك الليلةِ رَأى كل واحد منا حلْماً. وكان لكلِّ حلمٍ مَعناهُ فينا نحن الاثنَينِ. وكان في السجن معنا شابًا من العبرانيين، كان عبدًا عند رئيس الحرس. فقصصنا عليه حلْمينا فَفَسرهما لكلٍّ منا، حَسبَ تأويل حلمهِ وكان من الصادقين. وبالفعل تم مثلما فَسَّرَ لنا الشاب الحلمين. فردني مولاي فرعون إلى عملي وأعدم كبير الخبازين».

فأرسل فرعون واستدعى يوسف ليحضُرَ أمامه فوراً، فأسرعوا وجاؤوا به من السجن بعد أن حلقوا له رأسه وذقنه وألبسوه ملابس جديدة، وجاؤوا به أَمَامَ فرعون. فقال فرعون ليوسف: «لقد رأيت حلماً ولم أجد له أحد من المفسرين، وقد سمعت أنك بتفسير الأحلام من العالمين.» فأجابه يوسف: «لا فضل لي في ذلك، ذلكما مِما عَلمَني ربي والعلم لله رب الْعَالَمِينَ.»

فقال فرعون ليوسف: رأيت نفسي في الحلم واقفًا عند نهر النيل. وإذا بسَبعِ بقراتٍ سمان حِسانِ صحيحة الأبدان، تصعد من النهر ترعى في بُستان. ثم خرجت ورائها سبع بقرات أخرى عجاف سقيمة الأبدان، لم ارى في كل أرض مصر مثيل لها في بشاعتِها. فالتهمت البقرات العجاف السبع بقرات السمان كلها. حتى وبعد أن بلعتها ظلت على سابق بشاعتها. ثم أستيقظت أنا من نومي. بعدها غفوت مرة أخرى وَرأيتُ سَبعَ سنبلاتٍ خُضرٍ نبتت من غصن واحد. ثم رأيت من ورائها سَبعَ سنبلاتٍ أُخَرَ يابساتٍ محروقة من صهد ريح شرقية. فأكلت السَبعَ سنبلاتٍ اليابساتٍ السَبعَ سنبلاتٍ الخُضرٍ . ولقد قصصت الحلمين على السحرة فقالوا أضغاثُ أحلامٍ وَما نحن بتأويلِ الأحلامِ بعالمينَ.»

يوسف يفسر أحلام فرعون

فقال النبي يوسف لفرعون: «التفسير واحد لكّلا الحلمين، وفي المعنى متفقين، وقد أطلع الله الفرعون عما سيفعله في الحلمين. السبع بقرات السمان والسبع سنبلات الخضر، تعبيراً عن رخاء يدوم سبع سنين، وهنا إتفاق الحلمين. فالسبع بقرات العجاف والسبع سنبلات اليابسات ، تعبيراً عن جوع يضرب الأرض سبع سنين. هذا تأويل الحلمين وبلاغاً لفرعون عما سيفعل رب العالمين. فها هي سبع سنين رخاء عظيم على كل أرض مصر مُقبلين. تعقبها سبع سنين عجاف تُهلك المجاعة فيها الأرض، وينسى فيها الناس رخاء دام عليهم سنين. فيعم البلاء من جراء مجاعة قاسية ضَرّاء. من قسوتها سينسى الناس أيام الرخاء. أما الغرض من تكرار معنى الحلم مرتين، فلأن ماشاء الله له أن يكون قد جاء.

والآن يجب على الفرعون أن يختار شخص يوليه أمر تدبير البلاد، يكون من أهل البصيرة الحكماء. ويُعَيّن على كل أرض مصر وكلاء، يجبون من الناس بأمر الفرعون خمسِ حصادِ زرعهَم في سنواتِ الرخاء. ويجمع هؤلاء الوكلاء كل ما جبوه من حصاد سنوات النماء، ويخزنوه في المدن بأمر الفرعون تحت حراسة ويحفظوه مؤونة للناس وقت حلول سنوات البلاء. فتكون تموين للشعب في السبع سنوات العجاف التي ستضرب البلاد فلا يهلك الناس من الجوع والعناء.»

النبي يوسف يصبح حاكم مصر

فاستحسن الفرعون ومعاونيه مشورة النبي يوسف. وقال فرعون لمعاونيه: «هل نَجِدُ رجلاً مثل هذا فيهِ من روحُ اللهِ؟» ثم قالَ فرعونُ للنبي يوسفَ: «إن كان الله قد وهبك المعرفة، فليس هناك نظير لك في البصيرة والحكمة. لذلك جعلتك على بيتي مشرفاً، وعلى الشعب واليًا، ولن يكون مَن هو أعظم سلطة منك إلا أنا وبعدي تأتي ثانياً. ومن الآن، جعلتك واليًا على كل أرض مصر». وخلع الفرعون خاتم المُلك من يده ووضعه في يد النبي يوسف. وألبسه ثياب ملكية، ووضع طوقاً من الذهب حول عنقه. ثم أركبه في عربته الملكية الثانية وجعل أمامه يجري منادياً، ينادي في الناس بالركوع والخضوع. وهكذا عين الفرعون النبي يوسف واليًا على كل مصر. وقال فرعون للنبي يوسف: «بأمري أنا فِرعَونُ. لا أحد يتصرف في شيء بدون أذنك.»

وأعطى الفرعون يوسف أسمًا فرعونيًا، وهو صَفْنَاتَ فَعْنِيحَ (والذي يعني حافظ الحياة). وزوجه أَسْنَاتَ بِنْتِ فُوطِي فَارَعَ كَاهِنِ مدينة أُونَ، وأصبح يوسف والياً على أرض مصر كلها.

سبع سنوات الخير

وبعد ما عين الفرعون يوسف والياً على مصر، خرج النبي يوسف من عند الفرعون وطاف في أرجاء مصر . وكان النبي يوسف قد بلغ الثلاثين حين بدأ في خدمة فرعون مصر.

وجاءت السبع سنوات الرخاء فأتت الأرض بحصاد وافر من الثمار والغلة. فجمع النبي يوسف مما حصدوه في سبع سنوات الرخاء من أرض مصر وخزنها في المدن، وحفظ حول كل مدينة تموينها من الغلال. فأدخر النبي يوسف خزين غلال كرمل البحر فاقت العدد من ضخامتها، حتى توقفوا عن عدها من عظمة وفرتها!

أبناء يوسف

وقبل حلول سنوات المجاعة، رزق الله النبي يوسف من زوجته أبنه كاهن مدينة أون بوَلَدَين. فسمى النبي يوسف أبنه البكر مَنَسَّى، وقال: «لأن الله أنساني كل شقائي وغربتي عن بيت أبي». أَما الثاني فَسماه أفرايم (معنى الأسم: المثمر مضاعفاً) لأنه قال: «لأن اللهَ رزقني بالذرية فِي الأَرْضِ التي كان فيها ضيقتي».

بداية سبع سنوات الجوع

ومضت أيام الرخاء الذي عَمَّ أرضَ مِصرَ بعد أن دام سبع سنين. وحلت سبعُ سَنواتِ الْمَجَاعَةِ كمَا فسر النبي يوسف. فَحدثت مجاعةٌ في جميعِ البلاد. لكن القمح كان متوفرًا في أرض المصريين. فعندما بدأت المجاعة تتسلل لأراضي المصريين، وصرخ الناس إلى فرعون للقمح طالبين، قال فرعون لكل المصريين: «أذهبوا إلى يوسف، وأطيعوه في كل ما يأمركم به». ففتح النبي يوسف كل مخازن الغلال وباع القمح للمصريين. فنزل إلى مصر أهل البلدان الأخرى المُتضررين، وجاؤوا إلى النبي يوسف لشراء القمح من أرض المصريين.

42

إخوة النبي يوسف في مصر

وحين عَلّم النبي يعقوب أن القمح متوفر في أرض المصرين، قَالَ لبنيه: «مالكم هكذا واقفون وإلى بعضِكم تنظرون؟ قد علمت أن القمح متوفر في أرض المصرين، هيا، اهبطوا مصرًا واشتروا لنا قمحاً، لنحيا وإلا هلكنا من الجوعِ». فَرحل أبْناء النبي يعقوب ليشتروا قمحاً من مصر، لأنَّ المجاعة كانَت قد ضربت ايضًا في أَرْضَ الكَنْعَانين. أما بنيامين أخو يوسف، فلم يرْسلْهُ النبي يعقوب مع إخوتِهِ، خوفاً من أن يصيبَه أذىً في الطريق.

وَكانَ النبي يوسف واليًا عَلَى أرضِ مصرَ. وكان هو مَنْ يَتولَّى الإشراف علَى بَيعِ القَمْحِ. فجاءَ إخْوة يوسف ودخلوا عليهِ وسجدوا أمامه. وحين رآهم عرفهم هو بينما هم لم يعرفوه، فتظاهر بأنه لا يعرفهم وكلمهم بقسوة. وسألهم: «من أين أنتم قادمون؟» فقالوا: « من أرض كنعان، وجئنا نشتري قمح».

النبي يوسف يستجوب إخوته

وتذكر النبي يوسف الرؤيا التي رأها عنهم، فقال لهم: «إنما أنتم جواسيس وجئتم إلى أرضِنا لتتجسسوا علينا» فَقَالُوا لَهُ: «كلا سيدنا، إنما نحن عبيدك وجئنا لنشتري القمح من أرضكم. فنحن اخوة ابناء لرجل واحد، نحن شرفاء، وما جئنا لنتجسس على أرضِكم» وَلكن النبي يوسف قالَ لهم: «لا، بل أنتم جواسيس مستكشفون». فقال أخوة النبي يوسف: إنما عبيدك أثنى عشر أخاً، أبناء لرجل واحد يقيم في أرض الكنعانيين. نحن عشرة ولنا أيضًا أخين، أحدهما الأصغر فينا وهو الآن في كنعان مع أبينا، والآخر مفقود منذ سنين». لكن النبي يوسف قال لهم: «لا بل كما قلت لكم، أنتم جواسيس مُستَكشفون. أقسم أنكم لن تخرجوا من هنا حتى تأتوني بأخيكم الصغير. أرسلوا واحداً منكم يأتيني به، أما بقيتكم فيظلوا في السجن عندي، وبهذا تَثبتوا صحةُ كلامكم إِن كنتم صادقِين. وإن لم تأتوني به فما أنتم إلا جواسيس متنكرون». ثم أمر النبي يوسف بوضعهم كلهم في السجن فمكثوا ثلاثة ايام محبوسين.

وفي اليوم الثالث قال لهم النبي يوسف: «أني أخاف الله رب العالمين، أفعلوا كما أقول لكم فتنجوا بحياتِكُم. فليبقى واحد منكم هنا في السجن عندي إن كنتم حقاً صادقين، ولينطلق بقيتكم بالقمح إلى بيوتكم والأهالي المنتظرين. ثم تأتوني بأخيكم الأصغر وانتم راجعين، وإلا أعدمتكم إن كنتم كاذبين». فاتفقوا معه على أن يأتوا لهم بأخيهم بنيامين. وقال أخوة يوسف فيما بينهم: «هذا عقاب رب العالمين، لأننا أذنبنا في حق أخينا ، ولم نسمع له حين أسترحمنا، لذلك وقعنا في هذا البلاء المبين». فَقَالَ رأوبين بكر النبي يعقوب : ألم أقل لكم لا تسيئوا ليوسف فلم تسمعوا لي؟ وها نحن الآن ندفع ثمن ما فعلنا». ولم يكونوا يعلموا أنَّ النبي يوسف كانَ يفهم حديثهم، لأنه كان يتحدث إليهم عن طريق مترجمين. فابتعد عنهم وبكَى وهو حزين، ثم رجع إليهم وأخذ شمعون وأمر خدمه بتقيدِه أَمَامَ أعيُن أخوته الآخرين.

عودة إخوة يوسف لأبيهم النبي يعقوب

ثم أمر النبي يوسف خدمهُ بِأن يملأوا أكياسَ إخوتِهِ بالقمحِ، وأن يعِيدوا فضة كل واحد منهم إلى كيسِه ، وأن يعطوهم زادًا للطريق. ففعل الخدم كما أمرهم النبي يوسف. فحَمَّلوا حَميرهُمُ بالقمحَ وانطلقوا في طريقهم راجعين. وحين توقفوا ليبيتوا، فتح أحدهم متاعه ليعلف حماره، فرأَى كيسُ فضتَه. فقالَ لإِخوتِهِ: «انظروا، قد رُدَّوا إليَّ فضتي، قد وجدتُها في متاعي!» ففزعوا ونظروا لبعضهم وقالوا: «ما هَذا الذي يفعلهُ بنا رب العالمين؟»

فلما رجعوا إلى أبيهم يعقوب في أرض كنعان، قَصُّوا عليهِ كل ما حَدث معهم وقالوا له: «يا آبانا، الرجل المتولي شئون مصر كلمنا بقسوة، واتهمنا بأننا جئنا لبلادهم لنتجسس عليهم. فَقُلنا لَهُ أننا شرفاء ولَم نأتي لنتجسس على أرضهم. وأننا أثنا عشر أخًا أولاد رجل واحد، وأن نحن العشرة جئنا نشتري القمح ، وأصغرُ أخٌ فينا موجود عِندَ أبـينا في أرضِ كنعان، ولنا أخ آخر مفقودٌ.» فقال لنا الرجل المتولي شئون بلاد المصريين: «لن تخرجوا من هنا حتى تأتوني بأخيكم الصغير. واحد منكم سيبقىَ هنا عندي، أما بقيتكم فيرجعوا بالقمح لأهلكم، وترجعوا لي بأخيكم الصغير، وبهذا تَثبتوا صحةُ كلامكم وأنكم شرفاء صَادِقِينَ، حينها أطلق لكم أخيكم وتتاجروا في الأرض آمنين. وإن لم تأتوني به فما أنتم إلا جواسيس متنكرون.» وكان النبي يعقوب معهم لَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ. وحين رأوا فضتهم رُدَّتْ إِلَيْهِمْ أرتعدوا خائفين.

فقال لهم النبي يعقوب: «حرمتموني من أولادي، يوسف مفقود، وشمعون هو الآخر مفقود، والآن تُرّيدون أيضًا أن تأخذوا مني بَنْيَامِينَ! كل المصائب حلت على رأسي بسببكم وجلبتم عليَّ البلاء المبين». فقالَ له رأوبين: «إِنْ لم أرجِع إليك ببنيامِين اقْتُلِ أولادَيّ الاثنينِ. سلمه ليدي وأنا أردُّهُ إليكَ سالمًا». فَقَالَ يعقوب لبنيه: لن أرسل معكم أبني بنيامين، فقد أفترس الذئب أَخُوه سابقاً، وَبينيامين وحده الآن متبقياً. فَإِنْ نَالَهُ مكروهٌ في الطريق، أنزلتموني قبري في شيبتي بحسرتي».

43

الرحلة الثانية - رجوع أولاد النبي يعقوب الى مصر

وكانت المجاعة يوماً بعد يومٍ تشتد قسوتها. فلما استهلكوا القمح الذي سبق واشتروه من مصر، قال النبي يعقوب لبنيه: «عودوا واشتروا لنا المزيد من القمح من أرض المصريين». فقال يَهُوذَا لأبيه: «الرجل المتولي شئون مصر حذزنا وقال لنا: «لن تروا وجهي إن لم ترجعوا بأخيكم الصغير معكم. فإن أرسلت معنا أخانا بنيامين، نذهب ونشتري لك القمح من أرض المصريين». وَإِن لَم ترسل معنا بنيامين، فلن نذهب لأن الرجل حذرنا وقال لنا: «لن تروا وجهي مرة أخرى إن لم ترجعوا بأخيكم الصغير معكم».

فقال النبي يعقوب لبنيه: «لماذا أسئتم إلى أبيكم وأعلمتم الرجل بأن لكم أخاً آخر؟ فقالوا: «إن الرجل قد دقق في سؤالنا عن أنفسنا وعن أهالينا. وقال لنا: هل لا زال حيًا أبيكم؟ هل من أخ آخر لديكم؟ فأجبناه حسب ما وجهه من أسئلة إلينا. فما أدرانا بأنه سيقول لنا: أَحضروا أَخاكم عندي هنا؟

فقال يَهُوذَا لأبيه يعقوب: «أرسل الغلام معي وأذن لنا لننطلق فنحيا ولا نهلك نحن ولا أنت ولا أولادنا. وأنا كافلٌ له، ومن يدي تطلبه. فإن لم أرده إليك سالماً، فاللَوْم عليَّ أنا طوال حياتي. فلو لم نتأخر، لكنا ذهبنا ورجعنا مرتين.»

فقال النبي يعقوب لبنيه: «إن كان لابد من ذلك فافعلوا، لكن امْلَأُوا أَكْيَاسِكم من أفضل ما تنتج الأرض، من البلسم والعسل، ومن التّوابِلِ وَالْمُرِّ، وَالْفُسْتُقِ وَاللَّوْزِ، وخذوها معكم هدية للوالي. وخذوا معكم ضعف فضتكم، وتُعيدوا لهم الفضة التي وجدتوها في أكياسكم، فلعل الأمر قد حدث سهواً. وَخذوا معكم أيضاً أخاكمْ وَقوموا أرجعوا إلَى مصر. عسى إلهنا القدير أن يجعل في قلب الرجل رحمة عليكم، فيسمح لشمعون وبنيامين أيضاً بأن يعودا معكم. أمّا أنا، فَإن كان ولابد أن أفقد أولادي، فقد فقدتهم.»

عودة إخوة النبي يوسف ومعهم بنيامين إلى مصر

فوضع أولاد النبي يعقوب الهدايا في أكياسهم، وأخذوا ضعف فضتهم، وأخذوا بينيامين أيضًا معهم، ثم نزلوا إلى مصر ووقفوا أَمَامَ يوسف كلهم. وحين رأى النبي يُوسُفُ أخاه بَنْيَامِينَ مَعَهُمْ، قال لكبير خدمه: «يا كبير الخدم أدخل الرجال إلى الْبيت واذبح ذبيحة وجهز وليمة، فهم مدعوون على الغذاء معي». ففعل الخادم كما أمره سيده، وأدخل الرجال إلى بيته.

فلما أدخلهم كبير الخدم إِلَى بَيْتِ يُوسُفَ وقف أخوة يوسف خائفين وتناجوا فيما بينهم قائلين: «بالتأكيد قد أحضرنا هنا بسبب الفضة التي وجدناها في أكياسِنا، وسيتهمَنا ويقهرنا ليأخذنا عبيدًا عنده ويستوليَّ على دوابنا». فتقدموا إِلَى كبير خدم يوسف وَقالوا له وهم داخلين: « يا سيد أسمع لنا، إنما أتينا في أول مرة لشراء القمح من بلادكم. لَكن حين توقفنا في الطريق لنبيت وفتحنا متاعنا، عَثَرنا عَلَى فضتنا بكاملها في أكياسنا، فأعدناها لنردها إليكم وقد جئنا بها معنا. وأيضًا جئنَا بِفضةٍ إضافية لشراء القمح لأهلِنا. ولا علم لنا بمَن أعاد الفضة في أكياسِنا!»

فَقَالَ كبير الخدم: «أطمئنوا فأنتم آمنين. إلهكم وإله أبائكم قد وهبكم كنزًا في أكياسِكم، وقد وصلتني فضتكم.» ثم أخرَج إليهم أخوهم شمعون. فأدخلهم كبير الخدم إلى بيت يوسف وَقدم لَهم ماء ليغسلوا أرجلَهم، وَقدم العلف لحميرِهِمْ. وحين علم أخوة يوسف أنهم على الغذاء في بيت يوسف مدعوون، هيئوا ٱلهدية وجلسوا عند الظهيرة ينتظرون.

وحين وصل النبي يوسف إلى البيت، أنحنوا على الأرض أمامه وقدموا إليه هديتهم. فسألهم عن أحوالهم، وقال لهم: «كيف حال أبيكم الشيخ الذي حكيتم لي عنه؟ أمازال حياً وبخير؟» فَأَجَابُوا: «عبدك أَبونا بخير». وانحنوا أمامه ساجدين. وَاتلَفتَ يوسف فرأَى أَخاه الشقيق بنيامين فقال لهم: «هذا أذن هو أخوكم الأصغر الذي حكيتم لي عنه؟» ثم قال لبنيامين: «يا بُنَي، سينعم الله عليك ويبارك فيك». وغلب يوسف الحنين لأخيه بنيامين، فخرج مُسرعًا إلى غرفتهِ وبكَى.

ثم غسل وجهَه وتماسك ثم خرَج، وأمر خدمَه بأن يقدموا الطعام للمدعوين. فقدَّمَ له الخدم للنبي يوسف الطعامَ منفرداً، وقدموا لأخوته وحدهم، وَللمصريين المدعوين منفردين، فقد كان مُحرمًا عند المصريين أن يأكلوا مع العبرانيين. فأجلسهم خدم النبي يوسف في حضرتِه بالترتيب كما أمرهم، كلٌّ واحد بحسب عمرِهِ، مِن البكرِ حتى الصَّغِيرِ. فَتسائلوا كيف عرف أعمارهم، ونظر بعضُهم إلَى بعضٍ مُتعجبين. وقدم الخدم للمدعوين مما على طاولة النبي يوسف، فقدموا لبنيامين خمسة أضعاف ما قدموه لأخوته الآخرين. فأكلوا معه وشربوا في سلام.

44

كأسُ يوسف الفضة في رحلِ بنيامين

بعدها وبدون علم إخوته، أمر النبي يوسف كبير خدمِه وقال: «أسمع، أملاء بالقمح أكياسهم، ورد إليهم فضتهم وضعها في كيس كل واحدٍ منهم. وضَع الكأس الفضة الخاصة بي ومعها ثمن القمح فِي رَحْلِ أصغرَهم». فنفذ كبير الخدم ما أمره النبي يوسف. وحين طَلَع النهار صرف الخدم أخوة يوسف ليرحلوا على بلادهِم. وقبل أن يبتعدوا عن المدينة، أمر النبي يوسف كبير خدمه وقال له: «هيا، أسرع وألحق بهم، وحين تدركهم تقول لهم: لماذا فعلتم الشر بعد الإحسان إليكم؟ لماذا سرقتم الكأس الفضة الخاصة بسيدي؟ فهو يشرب في تلك الكأس ويكشف بها عما سيحدث في المستقبل. قد أرتكبتم شراً فيما فعلتم».

ولما لحق كبير خدم النبي يوسف بإخوته وهم سائرون، قال لهم كما أمره سيده يوسف. فأجاب أخوة يوسف وقالوا: «ما الذي تقول يا سيدنا؟ حاشا لله، لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين! وقد شهدتَ أن الفضة التي وجدناها في رِّحالنا، رجعنا بها إليكم من أرض الكنعانيين. فكيف لنا أن تمتد أيَّادينَا لفضة أو ذهب بيت سيدك ونكون سارقين؟ ها نحن أمامك، ومَن سرق الكأس جزائه الموت وبقيتنا يكونوا خدم لك». فقال لهم كبير خدم النبي يوسف: «ليكن حسب قولكم. لكن لن أخُذَ إِلاَّ مَن سرق الكأس، أما بقيتكم فأبرياء لا ذنب لكم». فأسرع كل واحد منهم وأنزل أمتعته من على الدواب وفتحها. فَبَدَأَ كبير الخدم بِتفتيش أَمتعتِهِمْ من كبيرهِم لصغيرهِم. فوجد الكأس في كيسِ بنيامين. فلما رأوه استخرجها مِن كيس بنيامين، فزعوا وشقوا ثيابهم، وحَمَلوا أمتعتهِم على دوابْهِم، ورجعوا إلى المدينةِ مرة أخرَى.

وكان النبي يوسف ما زال في القصر، فحين دخل إِخْوَتة القصر ورأوه، ألقوا بأنفسهم أمامهُ على الأرض. فَقَالَ لَهُمْ النبي يُوسُفُ: «ما هذا الذي فعلتم؟ ألا تعلمون (أن اللَّهُ يَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن يشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)؟» فَقالَ يَهُوذا رابع أبناء النبي يعقوب: «يا سيدنا، ماذا نقول وكيف لنا أن نُبَرئ أنفسنا؟ قد كشف الله ما سبق وارتكبت أيادينا. فنحن ومَن وجدت الكأس عنده عبيد عندك يا سيدنا». فَأجابهم النبي يوسف: «معاذ اللَّه أن نأخذ إلا من وجدنا الكأس عنده. أما بقيتكم فترجعوا لأبيكم سالمين».

فدَنىَ يَهُوذَا وقال ليوسف: «عفوك سيدي، إن لك مكانة مثل فرعون مصر، فاسمح لي بكلمة ولا تغضب مني. سَبق وسألتنا عن أبانا، وعن أخينا الصغير بنيامين. فأجبنا: إن لنا أبًا شيخًا وأخ صغير أنجبه أبانا في شيخوخَتِه، وهو المُحَبَب عند أبينا، وبنيامين وحده تبقى بعدما مات شقيقهَ الكبير. فَقُلتَ لنا: تأتوني بأخيكم الصغير لأراه بعيني إن كنتم صادقين. فأجبنا: لا يقدر الغلام أن يترك أبيه، فإن فارقه مات أبانا من حسرتِه عليه. فَأنذرتنا وقُلتَ لنا: لن تروا وجهي مرة أخرى إن لم تأتوا بأخيكم وانتم راجعين. فلما رجعنا إلى أبينا، أخبرناه بما قلتَ لنا. وحين نفد القمح الذي أشترينا قال لنا أبانا: أنزلوا مِصْراً واشتروا مزيدًا من القمح لنا. فقلنا له: ليس بإمكاننا أن نعود إلى مصر، ولا أن نرىَ وجه الوالي إلا وبنيامين معنا فذَكَرنا أبانا وقال لنا: أنتم تعلمون، إنّ زوجتي راحيل أنجبت لي يوسف وبنيامين. فقدتُ يوسف حين قلتم لي أن الذئب أفترسه، ومن يومِها لم تراه عيني. (فهَلْ آمَنُكُمْ الآن على بينيامين إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ)، أنا شيخ كبير وإِنْ أخذتم مني بنيامين ونَاله مَكْرُوهٌ فِي الطَّرِيقِ أموت بحسرتي في شيبتي، (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ). والآن يا سيدنا كيف لنا أن نرجع بدون أخينا، وحياة صَغيرنا مرتبطة بحياة أبينا. إن أبانا سيهلك إن نحن رجعنا بدون بنيامين، وعن موته بحسرته في شَيبَتهِ نكون نحن المسئولين. وأنا قد (آتيته مِّنَ اللَّهِ مَوْثِقًا) وعاهدته قائلاً: أنا كافل له، ومن يدي تطلبه. فإن لم أرده إليك سالماً، فاللَوْم عليَّ أنا طوال حياتي. فالآن أنا عبد لك فخذني مكانه، وأعفو عن بنيامين ليرجع مع إخوته. كيف لي أن أرجع بدونه لأبي، فلا طاقة لي بتَحَمُل موت أبي أمام عيني من حسرته على بنيامين».

45

النبي يوسف يعفو عن أخوته

فلما سمع النبي يوسف توسُلات أخوه يهوذا لم يتمالك نفسه من البكاء أمام خدمِه، فأمر بأن يخرج كل مَن كان عنده. فلم يتبقىَ في حضرته أحد غير إخوته، حينها كشف لهم يوسف عن نفسه. وعلا بالبكاء صوته، فسمعه المصريون الذين خرجوا من عنده. ووصل الخبر إلى قصر الفرعون. وقال النبي يوسف لإخوته: «أَنَا أخوكم يوسف. أحقاً ما زال أبي حياً؟». فخافوا ولم يستطيعوا أن يتكلموا بعد أن وجودوا أنفسهم وجهًا لوجه أمام يوسف.

فقال لهم يوسف: «تعالوا اقترِبوا منّي». فاقتربوا منه، فقال لهم: «أَنَاْ يُوسُفُ أخوكم، الذي سبق وبعتموه إلى التجار الإسماعليين. (لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) لَا تخافوا ولا تلوموا أنفُسَكُم لأنكم بعتموني لأكون عبدًا في مصر، مشيئة الله كانت أن يُنَجَّي الناس من المجاعِة ولذلك أرسلني أمامكم. وإن المجاعة التي ضربت الأرض منذ سنتين ستستمرّ خمس سنين أخرى لا زرع فيها ولا حصاد. لكن الله أرسلني أمامكم لينقذ حياتكم ويحفظ نسلكم. فإن الله هو الذي قَدَّرَ وأرسلني إلى هنا وليس أنتم. وهو الذي جعلني كبير وزراء الفرعون، ووالياً على كل أرض المصريين. الآن عجلوا وارجعوا إلى أبي وقولوا له: أبنك يوسف يقول لك: يا أبي، قد جعلني الله واليًا على كل أرض مصر، عجل وتعالى لعندي. تعال أنت وأبنائك وأحفادك ومعك غَنَمُكَ وَبَقَرُكَ، لتَسْكُنوا فِي أَرْضِ جاسان شرق دلتا النيل فتكونوا مني قريبين. وأنا سأتكفل بكم، لأن المجاعة ستظل تضرب الأرض لمدة خمس سنوات أخرى، وإن لم تأتوا لعندي هلكتم. والآن يا إخوتي، أنتم وأخي بنيامين شهود أني أنا هو يوسف مَن يقف أمامكم ويحدثكم! أذهبوا لتُبَشروا أبي، وأخبروه عن كل المجد الذي لي في مصر وأعلموه بعلو مكانتي. هيا عجلوا وأحضروه هُنا عندي».

وعانق يوسف أخيه الصغير، فتعلق بنيامين في عنق يوسف وبكىَ الأثنان. وقَبَلَ يوسف بقية أخوته وبكَى. ومن بعدها تكلموا معه وهم مطمئنين.

ولما وصل خبر لقاء يوسف بأخوته لقصر الفرعون، ابتهج فرعون وكل أعوانه. وقال الفرعون ليوسف: «قل لإخوتك أن يُحَملوا دوابهم ليرجعوا لأرض الكنعانيين. ثم يعودوا إلىَّ هنا ومعهم أبيكم وأَهْلِكمْ، وأنا من أخصب أرض مصر سأهب لهم، فيأكلوا منها ويقيموا مُطمئنين. يا يوسف، قد أصدرت أمرًا بأن يأخذ أخوتك مركبات من مصر، لينقلوا عليها أبيكم وأَهْلِيكُمْ ويأتوا إلىَّ هنا كلهم. ولا يهتموا إن تركوا هناك شيئًا من أملاكهِم، فأنا سأوفر لهم من خيرات أرض مصر كل إحتياجاتهم».

ففعل النبي يوسف كما أمره الفرعون. ووَزَعَ النبي يوسف ثيابًا جديدة علىَ كل واحد من أخوتِه، أما بنيامين فأعطاه خمس حُلَل من الثياب وثلاث مئة قطعة من الفضّة. كما أرسل النبي يوسف لأبيه بعشر دواب مُحمَّلة من خيرات مصر، ثم أَعْطَاهُمْ المركبات ومعها عشرة دواب أخرى مُحمَّلة بالقمح والخبز والزاد لرحلة عودتهم. ثم صرفهم في طريقِهم، ووصاهم قائلاً: «لا تتنازعوا في الطريق، وأرجعوا مصر إن شاء الله آمنين».

فخرجوا من مصر حتى وصلوا أرض كنعان، ووصلوا عند أبيهم النبي يعقوب. فقالوا له: «يا أبانا، إن يوسف مَازَالَ حَيًّا! وقد أصبح والياً على كل أرض مصر». لكن وقع الخبر أذهل النبي يعقوب ولم يصدقهم. لكن حين سمع منهم ما قاله يوسف، ورأىَ المركبات التي أرسل بها إليه، انتعشت روح البني يعقوب. وقال لهم: «صدقًا أذن أن أبني يوسف مازال حيًا، سأذهب إليه لتراه عيني قبل اُلاقي ربي».

46

أولاد وأحفاد النبي يعقوب الذين رحلوا معه إلى مصر

فأذنَ لهم النبي يعقوب بالرحيل، فحَمَلَوا أبيهم وأبناءهِمْ وزوْجاتِهِم على المركبات التي أرسلها لهم الفرعون، ومعهم مواشيهم وأغنامهم وكل ما امتلكوه في أرض الكنعانيين، ورحلوا من حبرون الخليل. ثم توقفوا في الطريق عند منطقة بئر السبع (حوالي 40 كيلو متر ناحية الجنوب)، وهناك قَدَمَ النبي يعقوب أضاحي تقرباً لله رب آبائه إسحاق وإبراهيم. وَفِي تِلْكَ اللَّيلَةِ أوحىَ الله للنبي يعقوب فِي الرؤيا وناداه وقال: «يعقوب، يعقوب.» فَاجاب النبي يعقوب: «لبيك، هأنذا.» فَقالَ تعالىَ: «أنا هو إله آبائك فلا تخف، وادخلوا مصر إن شاء اللَّه آمنين، فأنا سأجعل منك أمة كبيرة في أرض المصريين. وسأكون معك اهدي طريقك وأنت نازل إلى مصر، ثم من مصر اُخرجُ نسلكَ، وأعيدهم إلى هذه الأرض مرة أخرىَ، وحين تموت، يوسف ابنك هو من سيغمض عينك.»

وهذه أسماء أولاد وأحفاد النبي يعقوب الذين نزلوا معه إلى مصر. رَأُوبَيْنُ بِكْرُ النبي يَعْقُوبَ وأولاده أربعه وهم: حَنُوكُ وَفَلُّو وَحَصْرُونُ وَكَرْمِي. وأولاد شمعون ستة وهم: يَمُوئِيلُ وَيَامِينُ وَأُوهَدُ وَيَاكِينُ وَصُوحَرُ وَشَأُولُ ٱبْنُ زوجته ٱلْكَنْعَانِيَّةِ. وأولاد لاوي ثلاثه وهم: جِرْشُونُ وَقَهَاتُ وَمَرَارِي. وأولاد يَهُوذَا خمسه وهم: عِيرٌ وَأُونَانُ وَشِيلَةُ وَفَارَصُ وَزَارَحُ. وكان أثنان منهم قد ماتوا في أرض كنعان وهم عير وأونان.، وأولاد فارص أثنين وهما: حَصْرُونَ وَحَامُولَ. وأولاد يساكر أربعه وهم: تُولَاعُ وَفَوَّةُ وَيُوبُ وَشِمْرُونُ. وأولاد زبولون ثلاثه وهم: سَارَدُ وَإِيلُونُ وَيَاحَلْئِيلُ. هؤلاء كانوا أولاد وأحفاد النبي يعقوب من زوجته ليئة المولودين في أرض أرام، بالإضافة إلى أبنته دِينَةَ، وعددهم ثلاثة وثلاثون.

أولاد جاد سبعه وهم: صِفْيُونُ وَحَجِّي وَشُونِي وَأَصْبُونُ وَعِيرِي وَأَرُودِي وَأَرْئِيلِي. وأولاد أشير أربعه وهم: يِمْنَةُ وَيِشْوَةُ وَيِشْوِي وَبَرِيعَةُ، وَأُخْتُهُمْ سَارَحُ. وأولاد بَرِيعَةَ أثنان وهما: حَابِرُ وَمَلْكِيئِيلُ. هؤلاء كانوا أولاد وأحفاد النبي يعقوب من زلفة الجارية التي أعطاها لابان لأبنته ليئة ووهبتها ليئة للنبي يعقوب ليتزوجها، وعددهم ستة عشر.

أولاد وأحفاد النبي يعقوب من زوجته راحيل أثنان وهما: يُوسُفُ وَبَنْيَامِينُ. ووُلِّدَ ليوسف في مصر ولدين وهما: مَنَسَّى وَأَفْرَايِمُ من زوجته أَسْنَاتُ بِنْتُ فُوطِي فَارَعَ كَاهِنِ معبد مدينة أُونٍ. وأولاد بنيامين عشرة وهم: بَالَعُ وَبَاكَرُ وَأَشْبِيلُ وَجِيرَا وَنَعْمَانُ وَإِيحِي وَرُوشُ وَمُفِّيمُ وَحُفِّيمُ وَأَرْدُ. هؤلاء كانوا أولاد وأحفاد النبي يعقوب من زوجته راحيل، وعددهم أربعة عشر.

أولاد دَانَ واحد وهو: حُوشِيمُ. وأولاد نفتالي أربعه وهم: يَاحَصْئِيلُ وَجُونِي وَيِصْرُ وَشِلِّيمُ. هؤلاء كانوا أولاد وأحفاد النبي يعقوب من بلهة الجارية التي أعطاها لابان لأبنته راحيل، ووهبتها راحيل للنبي يعقوب ليتزوجها، وعددهم سبعة.

وهكذا كان مجموع عدد أهل بيت النبي يعقوب من صُلبِه، الذين نزلوا إلَى مصر سبعين.

وقبل أن يصل النبي يعقوب، أرسل أبنه يهوذا إلى يوسف كي يستقبلهم ويرشدهم إلى منطقة جاسان في شرق دلتا النيل (محافظة الشرقية في مصر الآن). فجهز النبي يوسف عربته وذهب إلى جاسان لِاستقبالهم. وحين ألتقيا ارتمىَ يوسف في أحضان أبيه وظل يبكي. ثُمَّ قالَ النبي يَعقُوبُ لِيُوسُفَ: «أبني يوسف، الآن يمكن أن أموت ونفسي مطمئنة، بعدما رأيتك حياً أمام عيني.» بعدها قالَ النبي يوسف لكل أهله: «يجب أن أذهب لأُعْلّم الفرعون بوصولكم. وأخبره بأنكم قوما رعاة أغنام، وأنكم جلبتم معكم أغنامكم وكل أملاككم. فحين يستدعيكم الفرعون ويسألكم: ما حرفتكم؟ تقولوا له: عبيدك رعاة أغنام توارثناها عن أبينا وأجدادنا. وحين تقولوا له هكذا، سيجعلكم تقيمون فِي جاسان أفضل أرض مصر، بعيدًا عن المصريين لأنهم لا يخالطون رعاة الأغنام.»

47

النبي يعقوب يقابل الفرعون

ثم انتقى النبي يوسف خمسة من أخوتهِ وقدمهم أمام الفرعون وقال له: «جلالة الفرعون، قد وصل أبي وأخوتي من أرض كنعان، ومعهم أغنامُهم وأملاكُهم، وهم الآن في منطقة جاسان». فسأل الفرعون أخوة يوسف: «مَا هي حرفتكم؟» فَقالوا: «عبيدك رعاة أغنام توارثناها عن أبينا وأجدادنا. وقد جئنا لنتغرب هنا، لأن المجاعة في أرض كنعان أشتدت علينا ونضبت مراعينا. فتكرم علينا واسمح لعبيدك أن نسكن في أرض جاسان». فقال الفرعون ليوسف: «حسنًا، إن كان أبوك وأخوتك قد وصلوا إليك هنا. فها هي أرض مصر وأنت الوالي عليها، فاسكنهم في جاسان لأنها أخصب أراضينا، وإن كان بينهم القادر على العمل، فأجعله يشرف أيضًا على خاصتي من المواشي الأغنام».

ثم جاء النبي يوسف بأبيه النبي يعقوب وقدمه لفرعون. فَدعَى النبي يعقوب لفرعون بالبركة. فسأل الفرعون النبي يعقوب: «كَم عمرك؟» فَقالَ له النبي يَعقُوب: «سنين حياتي شقاء تَقطرُ ألمًا، قضيتُ مئة وثلاثين سنةً من عمري مغتربًا، لكن لم أبلغ في سنين غربتي ما بلغه أبائي سلفًا». ثم دعَى النبي يعقوب لفرعون بالبركة مرة أخرى وخرج من عنده.

ففعل النبي يوسف كما أمر الفرعون، وأسكن أباه وأهلهُ في جاسان أفضل أرض مصر، عند منطقة رَعَمْسِيسَ أو صان الحجر في شرق دلتا النيل. وتكفل النبي يوسف أيضًا بتوفير طعامهم.

ومرت الأيام واشتدت قسوة المجاعة ونفَذَ القمح من كل أرضُ مصرَ ومن أَرضُ كنعان. فجاء الناس من كل مكان للنبي يوسف ليشتروا القمح، فباع لهم القمح، وجَمَع كل الأموال التي في أرْضِ مِصْرَ وَأرْضِ كَنْعانَ، وادخرها في مخازن الفرعون. وعندما نفذ المال من الناس، جاء المصريون وقالوا للنبي يوسف: «يا والي مصر، الآن قد نفدت أموالنا، فوفر لنا أنت طعامنا. فلّماذا نهلك أمام عينك؟» فقال لهم يوسف: «إن كانت قد نفدت أموالكم، أُقَايِضُكُمْ القمح مقابل ماشيتكم». فَجاءُوا إلى النبي يوسف بكل ما عندهم من مواشي وأغنام، فقايضهم الغنم والبقر والحمير والخيل، مقابل طعام يكفي حاجتهُم لمدة سنة.

وحين انقضت تلك السنة، رجع الناس إلَى النبي يوسف وقالوا: «سيدنا والي مصر يعلم أنه لم يتبقَ مالًا لدينا، وفي حوزتك كل مواشينا وأغنامنا، والآن لم يتبقَ لنا غير أراضِينا وأجسادُنا. فلا تَدَع الجوع يهلكنا وتبور أراضينا. فلتَملُكنا نحن وأراضينا، ونصبح ملكاً للفرعون مقابل طعامنا، وتوفر لنا قمحاً يُبقِّي على حياتنا، وبذوراً لنزرع لندفع الخراب عن أرضنا».

وهكذا بعد أن باع الناس كل أراضيهم ليوسف من شدة المجاعة مقابل طعامهم، صارت أراضي مصر كلها ملكاً للفرعون. لكن الكهنة لم يضطروا لبيع أرضهم، لأن الفرعون كان يكفل لهم طعامهم. وهكذا وهب الله ليوسف الحُكم على الناس، وعلى أراضي مصر كلها.

بعدها قال النبي يوسف للناس: «اليوم أصبحتم ملكاً للفرعون أنتم وكل أرضكم، فخذوا بذوراً وازرعوا أرضكم. وعند الحصاد يكون للفرعون الخُمس من حصادكم، وَاحتَفِظوا بِأربعةِ أخماسٍ طَعاماً لَكم وبِذوراً لِأرضكم.» فَقال الناس للنبي يوسف: «يا والي مصر، رضينا أن نكون عبيدًا للفرعون، لقد أنقذت بهذا حياتنا!» فجعلها النبي يوسف قانونًا بين المصريين، يقضي بأن يكون للفرعون الخمس من المحاصيل، إلا أراضي الكهنة لأنها لم تصبح ملكًا للفرعون.

وهكذا سَكَنَ النبي يعقوب وأهل بيته في أرض جاسان شرق دلتا النيل، وتَمَلكوا فيها وتكاثروا وأصبح عددهم كبير. فعاش النبي يعقوب في مصر سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً إلى أن بلغ من العمر مئةً وسبعًا وأربعين. ولما أحس النبي يعقوب بقُرب أجله، استدعَى ابنه يوسف وقال له: «إن كنت حقًا تحبني وبمعروفٍ منك تكرمني، فعاهدني أن تحملني إلى أرض كنعان بعد موتي، وفي مقبرة أبائي تدفني». فقال يوسف لأبوه: «سأفعل كما اوصيتني». فَقالَ النبي يعقوب ليوسف: «فلتُقسّم لي». فأقسم له النبي يوسف. فسجد النبي يعقوب على طرف فْرَاشهِ حمدًا لله.

48

وصية النبي يعقوب

وبعد فترة، حين بَلَغ النبي يوسف أن أبيه مريض، أخَذَ وَلَدَيهِ مَنَسَّى وَأفْرايِمَ وذهبوا لزيارته. ولما عرف النبي يعقوب أن يوسف وأولاده وصلوا، تشدد واستجمع قوته، وجلس على سريرِه.

وقال ليوسف: «يا بُني، بعدما خرجت من بيت أبي في أرض كنعان، أوحىَ لي الله القدير عند بيت لحم وباركني. وقال لي: «يا يعقوب، سأجعل نسلك كثير، ومنك ستخرج أممً كبيرة، وهَذِهِ الأرْضَ سَأُهبها لِنَسلِكَ. فمن الآن يا يوسف، سيكون أفرايم ومنسى بالنسبة لي مثل رأوبينَ وَشمعون. وإن رزقك الله بأولاد بعدهما فهم لك، وَيرثون نصيبهم على أسماء أفرايم ومنسى. فمن الآن، ولَداك اللذان أنجبتهما في مصر قبل أن نصل إليك هنا، سيكونا ولداي أنا. للأسف يا بُني، قد توفيت أمك راحيل بعد ولادة أخوك بنيامين، حين كنا راجعين في طريقنا من بلاد ما بين النهرين، ودفناها بالقرب من بيت لحم في أرض الكنعانيين.»

وكان النبي يعقوب قد شاخ وضعف بصره، فلم يتعرف على اولاد يوسف، فسأله: «من هذان الصبيان اللذان معك؟» فقال يوسف لأبيه: «هَما الولدان اللَّذانِ رزقنِي اللهُ بهُما.» فَقالَ النبي يعقوب: «قربهما إلي حتى أدعو لهما بالبركة.» فقربهمَ النبي يوسف لأبيه، فقبلَهما النبي يعقوب وٱحتضنهما. وقال النبي يعقوب ليوسف: «كنت أظن أنك مُت منذ سنوات طويلة، حتى فقدت الأمل في رؤية وجهك، لكن مشيئة الله جعلتني أرىَ أيضاً نسلك». فانحَنَى يوسف إلَى الأرْضِ أمامَ أبيه.

ثم قَرَب النبي يوسف أبنه البكر مَنَسَّى ناحية يد أبيه اليُمنىَ، وقَدم أبنه الصغير أفْرايِمَ ناحية يد أبيه اليُسرىَ. لكن النبي يعقوب عَكَّسَ ذراعيه ووضع يده اليُمنىَ على رأس أفْرايِمَ الصغير، ويده اليُسرىَ على رأس مَنَسَّى البكر. ثم دعى ليوسف وأبناه بالبركة وقال:

«ربي، أنت الإله الذي عَبدك آبائي إسحاق وإبراهيم ومشوا أمامك على صراطك المستقيم

وأنت ربي الذي كنت معي طول حياتي وأرسلتَ لي ملاكك ليحفظني

فيا رب الآن اسألك أن تبارك هَذَينِ الوَلَدينِ

وأجعلهما يرثا أسمي،

وبسببهما تُخلّد أسماء أبائي إسحاق وإبراهيم

واجعل نسلهم في الأرضِ كثير».

فلما رأى يوسف أن أبيه قد وضع يده اليُمنىَ على أفرايم الصغير بدلاً من بكره منسي تضايق، فحاول أن يُغير وضع يد أبيه. وقال لأبيه: «لا يا أبي. هذا هو أبني البكر، فضع يدك اليُمنىَ على رأسه». لكن النبي يعقوب قال ليوسف: «أعلم يا ولدي، أعلم. فأبنك البكر أيضاً سَيَخرج منه شَعباً كبيرًا. لَكِنَّ أخاهُ الأصْغَرَ سَيَصِيرُ أعظَمَ مِنْهُ، وَأممًا كثيرة ستخرج من نَسلِه.»

ثم دعَى النبي يعقوب لهم بالبركة مرة ثانية وقال: «سيظل في بني يعقوب ذكركما، فكلما طلبوا من الله البركة لأحد سيقولون ليَجعَلُكَ اللهَ كَأفْرايِمَ وَمَنَسَّى.» فَقَدَّمَ النبي يعقوب أفْرايِمَ أبن يوسف الصغير في بركتِه عَلى مَنَسَّى أبن يوسف البكر.

ثم قال النبي يعقوب ليوسف: «فلتُصغّي يا بُنىَّ إلى كلامي، فقد أوشك أن ينقضي أجلي، لَكِنَّ اللهَ سَيَكُونُ مَعَكَ، وَسيعيدك إلَى أرْضِ التي وعد بها آبائنا من قديم الزمان. يا يوسف، أنا وهبت لك منطقة جانب التل في أرض شكيم الَّتِي أخَذْتُها مِنَ الأمُورِيِّينَ.»

49

النبي يعقوب يتنبأ لأولاده

ثم جمع النبي يعقوب أولاده الأثني عشر وقال لهم: «التفوا حولي يا أبنائي لأُنَبأَكُم بأمور مستقبلكم ومستقبل أبنائكم. هيا أقتربوا يا بني إسرائيل واصغوا إلى قولي. يا رأوبين، أنت أبني البِكْرِي، وُلدت في ذروة قوتي، وكنت مُكرمًا بين أخوتك. لكنك مضطرب وتمردت على أبيك ونجستَ فراشهِ. ففقدت مكانتك الكريمة بين أخوتك. «أسمع يا شمعون وأنت يا لاوِي، أنتما أدوات للعنف والقتل وسيوفكما ظالمة. لا أشاركما الغدر فيما تخططان ، لأنكما ارتكبتا جريمة القتل وأنتما غاضبان، ومن أجل اللهو فقط تكسران مفاصل الثيران. فاللعنة عليكما، وبَينَ قَبائِلَ بني إسرائيل سَأُشتت ذريتكُما. «أمّا أنتَ يا يَهُوذا، سيمدحك أخوتك، ويَدُكَ ستكون على رِقابِ أعدائِكَ. وسينحني أخوتك أمامك. يَهُوذا أنت مِثلُ أسدٍ في قوتك. تقوم لتغتنم فريستك ولا يجروء أحد أن يقاومك. لا احد ينتزع منك سلطتك، ومُلكك يدوم في ذريتك، والأمم تخضع لك إلى أن يأتي الملك المنتظر. «أما أنت يا زَبُولُونَ، فَتسكن ذريتك عِندَ شاطِئِ البَحرِ ويكون ساحلك مَيناءًا لِلسُّفُنِ، وإلى صيدا ستمتد حدود أملاكك. «وأنت يا يساكر، فذريتك مثل حمار حقل قوي مُثقلاً باحمالِك. تسْتَطيبَ الرّاحَةَ في الحقول، فتصبح عبداً للعمل الشاق ، والخمول يحني ظهرك. «يا دان، أنت مَن سَيَجلب العدل إلى بني إسرائيل. أنت سبط صغير لكن ذريتك تعرف كيف تكسب المعركة. «أمّا أنت يا جاد، فالغزاة يحاربونك، لكن ذريتك تقاومهم وتطردهم. «وأنت يا أشِيرُ، فَتكُونُ أرض ذريتك رخاء، وموائدهم تكون عليها طعاماً ملكياً. «وأنت يا نَفْتالِي مثل غزال طلَيقَ، ذريتك طلعتهم بهية. «يا يوسف، ستكون ذريتك كثيرة مثل كَرمة عنب أزهرت أوراقهَا، على السِّياجَ تتسلق أغصانَها، وعند النبعٍ تدلت ثمارَها. الأعداء يهاجمون ذريتك بلا رحمة ويطلقون عليكم سهام غضبهم. لَكِنَّ قُوَّة ذريتك تبقَى ثابِتَةً، وتظل القوة في قبضتكم، لأن إله بني إسرائيل بقدرته يحفظكم. وإلهي الذي أعبد يكون في عون ذريتك، ويبارككم بنسل كثير وبمطر ينزل من السماء وأنهار تجري في أرضكم. عظيمة هي البركات التي أطلبها من الله لكم، أعظم من الخيرات اللي على الجبال الأبدية والتلال الخالدة. اسأل الله يا يوسف أن كل هذه البركات تنزل على رأسِك، لأنك انت الأمير والسيد فوق أخوتك. «وأنت يا بنيامين ذريتك خبراء حرب مثل الذئاب المفترسة. فِي الصباح تحاربون أعدائكم وفِي المَساءِ تأخذون من الغنيمة نصيبكم» هذه هي البركة التي بارك بها النبي يعقوب أولاده الاثْنَيْ عَشَرَ، بحسب ما تنبأ لكل واحد منهم. بعد ذلك وصاهُمْ النبي يعقوب وَقالَ لَهُمْ: «الآن قد حان أجلي. وأنا أوصيكم بأن تدفنوني مَعَ آبائِيَ فِي كَهْفِ المكفيلة، قُرْبَ مَمْرا فِي أرْضِ كَنْعانَ. كَهْفِ المكفيلة هذا كان جدي إبراهيم قد اشتراه من عفرون الحثي، وهناك دُفنَ جدي إبراهيم وجدتي سارة. ودُفنَ فيه أبي إسحاق وأمي رفقة. وهناك أيضاً دفنتُ زوجتي لَيئة. «أللهم أني أنتظر برحمتك خلاصي.» وبعد ما وصَى النبي يعقوب أولاده، فاضت روحه إلى بارئها.

50

دفن النبي يعقوب

فألقَى النبي يوسف بنفسه علَى جسد أبيهِ، وَقَبَّلَهُ وبكى. وأمر الأطبّاء أن يحنطوا جسد أبيه. فحنط الأطباء جسد النبي يعقوب في أربعين يومًا، بحسب عادات المصريين. وبقيَّ المصريون في حداد على النبي يعقوب مدة سبعين يومًا، لأن النبي يعقوب كان أبو الوالي على أرض مصر. ولما كان النبي يوسف في فترة الحداد على أبيه، لم يكن مسموحًا له بأن يقابل الفرعون، بحسب تقاليد الحداد عند المصريين. فتحدث النبي يوسف مع أهل بيت الفرعون، وقال لهم: «عساكم أن تسدوا لي معروفاً وتقولوا للفرعون على لساني: إن أبي قد وصاني قبل وفاته واستحلفني أن أدفنه مع أباءه في أرض كنعان. فليأذن لي الفرعون أن أذهب لأنفذ وصية أبي ثم أعود» فوافق الفرعون على طلب يوسف ، وقال: «يا يوسف، أذهب إلى كنعان واحفظ عهدَكَ مع أبيك.»

وحين غادر النبي يوسف أرض مصر، ومعه كل إخوته وكل أهل بيت أبيه ليدفنوا النبي يعقوب، رافقه كبراء من حاشية فرعون مع فرسان وعربات حربية.

ولمّا وصلوا عند الضفة الشرقية من نهر الأردنّ، أقامَ النبي يوسف لأبيهِ مراسم عزاء وناحوا عليه، واستمر العزاء سبعة أيام. وحين رأى الكنعانيون النواح العظيم على النبي يعقوب ، قالوا: «هذه مناحةٌ عظيمةٌ للمصريين». لذلك سموا هذا المكان «آبل مصرايم» التي تعني «مناحة المِصْريين».

وبعد أسبوع العزاء، عبر أولاد النبي يعقوب نهر الأردن، ودفنوا أبوهم فِي الكهف الذي في حقلِ المكفيلة. وكان هذا الكهف قد اشتراه النبي إبراهيم مع الحقلِ، من عفرون الحثيّ ليكون مدفناً لأهل بيتِه فِي أرضِ كنعان. وبعد أن دفن النبي يوسف أبيه النبي يعقوب، رجع هو وأخوته وكل مَن رافقه إلى أرض مصر. وهكذا نفذ أولاد النبي يعقوب وصية أبوهم قبل أن يتوفاه الله.

وبعد عودتهم إلى أرض مصر خَاف أخوة النبي يوسف وقالوا فيما بينهم : «ماذا لو أن يوسف ما زال يكرهنا، ويريد أن ينتقم منا، جزاء ما فعلناه معه وقسوتنا عليه؟» فَبعثوا برسالة إلى النبي يوسف قالوا له فيها: «يا يوسف، لقد أوصانا أبوكَ قبل وفاته وقال لنا: قد أسئتم في حق يوسف وأذنبتم، فيجب أن تطلبوا منه العفو عن خطيئتكم. فالآن يا يوسف، نسألك أن تعفو عن ذنبنا ، فنحن في النهاية أخوتك ونعبد إله أبيك». فبكىَ النبي يوسف حين سمع رسالتهم.

وبينما النبي يوسف يبكي، دخل عليه إخوته، وانحنوا على الأرض أمامه، وقالوا: «يا اخانا يوسف، عبيدك نحن وخدامك». فقال لهم النبي يوسف: «يا إخوتي، لا تخافوا، فلا تثريب اليوم عليكم. هل أنا مكان الله لأحاسبكم؟ أنتم أردتم بي شرًّا ، ولكنّ الله أبدلي خيرًا، لينجي كل هؤلاء الناس وينجيكم. فلا تخافوا، فأنا أكفيكم أنتم وأولادكم.» وبعد ما سمع أخوة النبي يوسف منه هذا الكلام، اطمأنت قلوبهم.

وبعد ذلك استمر النبي يوسف في العيش مع أهل بيت أبيه في مصر مدة طويلة. وكان عُمر النبي يوسف حين وصل إلى مصر سبعة عشر سنة. وحين عينه الفرعون واليًا على مصر كان عُمره ثلاثين سنة. وحين وصل النبي يعقوب وأهل بيته إلى مصر كان عمره مائة وثلاثون سنة وعُمر يوسف تسعة وثلاثون سنة. وعاش يوسف حتى رأى أولاد أبنه أفرايم وأحفاده. كما رأى أولاد ماكير أبن ابنه منسَى.

وفاة النبي يوسف

وحين أحس النبي يوسف بقرب أجله قال لإخوته: يا أخوتي، الآن قد قَرُبَ أجلي، وإن الله سيتكفل بكم ويخرجكم مِن هذه الأرض، ويُرجعكم إلى الأرض الّتي وعد بها أبائنا إبراهيم وإسحَاق ويعقوب. فاحلفوا لي أنه حين يأذن الله بخروجكم، تحملوا عظامي معكم، وتدفنوني في أرض كنعان.

وتوفّي النبي يوسف حين كان عُمره مائة وعشر سنين، فحنَّطه المصريون ووضعوا جثمانه في تابوت.